أسبالتا

هل حقاً يقتلنا الماضي ؟

كتب/ محمد عباس الباشا

هل يستحق الماضي أن يكون له كل هذا الأثر في حياتنا؟!

كل إنسان ليهو ماضي

ماضي كامن في حياتو

ليهو أحلامو القديمة

ماضي عمرو و ذكرياتو

لو نساها أقول ده ناكر

و ان طراها و قال بواكر

يبقى مخلص يبقى فاكر

يبقى عايش بي ضميرو

و الوفاء أبرز صفاتو..

خَلُصَ الشاعر المرهف محجوب سراج إلى أن الوفاء هو أبرز صفات من يذاكر مع نفسه ماضيات أيامه و عظيم حوادثها، غير أن رحيق الأيام ليس هو الحصاد المتوقع دائما عندما نرحل في بحر الذكريات، فهناك الكثير المتنوع من المشاعر و الصور و الأفراح و الأحزان، و خضم المتناقضات العظيمة.

علاقتنا بما مضى تلقي ظلالها بلا شك على حاضر أوقاتنا و مستقبل أيامنا، يحدث ذلك عندما نطلق لأنفسنا العنان و هي تسرح في أصداء السنوات الخالية، و المواقف الكبيرة في حياتنا، خاصة تلك التي شكلت مستقبلنا أو بعضا منه.

تكون علاقتنا بما طوته الأيام علامة من علامات الوفاء إن ارتبط عهد مضى بودنا لأشخاص، و صلتنا بأماكن، و حنيننا لعبق أو عطر أو حتى غبار، غير أن الانغماس في التفكير في حوادث الماضي، و الأسف على قرارات لم نتخذها أو اتخذناها و تبين خطأؤها يورث الحزن و الشعور بالأسى، و البقاء في أسر الماضي، وهو ما يحرمنا النظر لأي إشراقة قد يأتي بها الله في المستقبل.

بالطبع لا يمكن لأي منا أن ينفصل كليا عن ماضيه الذي هو كتاب حياته بما يحمل من صور متباينة، لكن يكمن التحدي في تحويل كل الصور في كتاب حياتنا إلى صور إيجابية تساعدنا على استقبال المستقبل بالتفاؤل و الشعور الجيد، و على معانقة الحاضر و نحن على يقين بروعة الحياة.

لا، أنا لا أجمل لك الحياة، و لا أرسم لها صورة شاعرية خيالية أفتقدها أنا كاتب هذه السطور، غير أني وجدت أن ما مضى يجب ان يؤخذ في سياق التجارب الإنسانية التي صنعتنا و نحن في قمة الحياة و هي الحاضر، بجأشنا، و قوتنا، و صبرنا، وخبراتنا، حتى باستخفافنا بالوقائع، نحن نخطئ و نصيب، و نوفق، و نخفق، لأننا عباد محدوي العلم و الإدراك، إننا نصارع الحياة التي نستهلها بصرخة منذ اليوم الأول، نظل نصارعها حتى اليوم الأخير.

إن كنت ممن يعيشون أسرى ندمهم على قرارات اتخذوها في السابق، أو من أولئك الذين لا يمر يومهم دون استعادة شريط أحداث السنين الآفلات، فاعلم أن تلك علامات تشير إلى ارتباطك السلبي بماضيك، و هو ارتباط يحجب الكثير من ضوء شمس الغد، كما أنه يسلبك لحظات الحاضر الغالية و يزويها في الأيام بلا رحمة.

أما إن كنت ممن يخجلون من ماضيهم، أو أولئك الذين يعاقبون أنفسهم على قرارات اتخذوها في السابق، أو أضاعوا خيارا كان عليهم تبنيه، أو كنت ممن يتمنون عودة السنوات لاختيار طرق تؤدي إلى مصائر أخرى، فأنت رهين تفكير مدمر للحاضر و المستقبل، كما أنه – مع ضرره – عديم الجدوى و صفري الفائدة.

عدم الرضا عن الماضي

تقودنا مشاعر عدم الرضا عن الحاضر نحو التفكير في سنوات حياتنا التي مضت، و يرتبط الأمر عادة بمشاعر مثل الندم، أو الشعور بالذنب، و غير ذلك من المشاعر المهلكة للنفس و البدن، و يكون تفكيرنا في الأعوام التي انطوت مضنيا و متعبا عندما نعتقد بأننا خُلقنا لنشقى فقط، و أننا ليس لنا نصيبٌ في السعادة، لازلت في صف من يؤكدون أن القاتل الأكبر في هذا الكوكب ليس الحروب و الفيروسات، عدم تقبلنا للحاضر هو ما يقضي علينا، عن طريق دعوة المفترسات الأخريات و تسليمنا لها ضعفاء لا نقدر على شئ.

و حتى يكون للحديث دليل فإن التفكير العميق في ماضينا ينتج الضغط العصبي و التوتر الكافي للإصابة بمرض القولون العصبي الشائع لدى الكثيرين، و هو من أكثر الأمراض إضرارا بحياة الإنسان؛ لتأثيره العضوي و النفسي المؤذي، و يسبب التفكير العميق في الماضي الحرمان من النوم و الهادئ المطمئن و الذي نحتاجه لاكتمال متطلبات العيش الهانئ السعيد.

عدم الرضا عن الماضي يسبب العديد من الاعتلالات الصحية
عدم الرضا عن الماضي يسلمنا للأرق و التوتر

التفكير العميق في الماضي يقود الفرد منا إلى الانعزال و البعد عن الآخرين و مؤانستهم أو حتى التواصل معهم على النحو الطبيعي و المحمود و المطلوب، كما أن الغوص عميقا في الماضي يرتبط غالبا بضعف الشهية لتناول الطعام، و عدم الرغبة فيه، و الأرق، وتلك من علامات سير الشخص نحو النهاية إن لم يلمس في نفسه خطورة ذلك، أو يجد فيمن هم حوله من يدرك أن صديقه يمضي حثيثا نحو النهاية.

لا يمكن الحديث عن الإغراق في الماضي دون تأكيد زيادة احتمالات إصابة الشخص بالاكتئاب، و ذلك من الأمراض المدمرة والتي تقف على رأس قائمة أسبابها الارتباط العميق بالحزن، و معاقرة الذكريات البائسة، و هو كذلك مرض نفسي جديرٌ بنا أن نحذره، و نتجنب الوقوع بين ذراعيه، لما نراه من حالات، وما يحدثنا به الأطباء النفسيون عن أحوال مرضى الاكتئاب.

ليس الاكتئاب وحده، فهناك أمراض أخرى تحدق بالشخص رهين ماضيه القاتل، في هذه الحالة تزداد احتمالات الإصابة بأمراض القلب و السرطان، وفق دراسات قديمة و مؤكدة، ومعلوم مدى خطورة هذه الأمراض على صحة الإنسان.

عندما نرهن الحاضر للماضي، فكيف لنا أن نستفيد من فرص الحاضر؟، فرص العمل، فرص الزواج، فرص الانتقال إلى حياة أفضل في مكان أفضل، و غير ذلك من الفرص، نحن نجني على أنفسنا جناية كبرى حينما نستهلك الحاضر في البكاء على الماضي، فلا نسعد في الماضي و لا الحاضر، وسيأتي المستقبل كذلك بلا ضوء.

ارتهاننا للماضي قد يتعدى حدود اكتساب الخبرة و الحكمة إلى حدود الخوف من الفشل، و ذلك هو بوابة الفشل الأوسع، فقد يكون خوفنا من التجربة هو السبب في عدم خوضنا لأي تجارب تقودنا للنجاح، النجاح يحتاج القدرة على اتخاذ القرارات السليمة، و طالما كنا نستعرض تجارب فشلنا فيها في الماضي و نخشى من المستقبل فإننا لن ننجح، لأن النجاح مرتبط بظروف موضوعية أولها القرار السليم في الوقت المناسب، مع القدرة على الإنجاز، و تنزيل الخطط على أرض الواقع.

يؤدي الارتباط العميق بالماضي إلى سلبنا القدرة على اتخاذ القرارات السليمة في الأوقات المناسبة، و كثيرا ما يفوت البعض فرصا من شأنها أن تغير حيواتهم إلى الأفضل، و لكنهم يتأخرون في اتخاذ قرار الاختيار خوفا من تكرار فشل تضخم لديهم أثره من كثرة ترددهم على الماضي و تقييم حاضرهم بناءا على تجربة بعينها في الماضي.

في الماضي أيضا تكمن أوقات سعيدة علينا أن نستدعيها
في الماضي أيضا تكمن أوقات سعيدة علينا أن نستدعيها

يعيش بيننا الكثيرون ممن يعشقون الماضي، و يعتبرونه الأفضل في حياتهم، و الأوفر نجاحا، حتى أن بعض الناس يعتبر أن إخفاقات الماضي كلها أفضل من أكبر نجاحات اليوم!!، و ذلك شعور يسبب ضعف تقديرنا للحاضر، و عدم اهتمامنا بالتخطيط للمستقبل، باعتبار أن الحياة و بهجتها و نجاحاتها أصبحت طي لفافة الماضي، وتلك حالة أخرى من حالات عدم الاتزان في العلاقة مع الماضي.

بالطبع لا نحفز الناس على التخلص من الماضي و التوقف عن النظر فيه، فالماضي هو كتاب الحياة الذي يزودنا بخلاصات الحكمة، و التجارب المفيدة التي تساعدنا على اتخاذ القرارات الجيدة في الحاضر و المستقبل، كما أن تعاطينا الجيد مع الماضي يمنحنا الفرصة لتصويب الأخطاء و هو أمر في مقدورنا أن نفعله ما دمنا أحياء، أما ما لايمكننا فعله أبدا هو إعادة الزمن إلى الوراء و التصرف على الدوام على النحو الصحيح.

هناك أشخاص يجب أن نحرمهم من أن يكونوا بذاكرتنا، يجب أن نفعل ذلك لأن هؤلاء يرتبطون في حياتنا بمواقف مؤلمة و أوقات عصيبة صنعوها، يجب أن نحرم هؤلاء الأشخاص من أن نتذكرهم، أو أن نلتقيهم، أو أن ننمى القدرة الكافية في أنفسنا على التسامح مع هؤلاء و ذكرياتهم، علينا الامتناع عن الانتقام من أحد مهما حفر بماضينا حفرة  أو أوقد نارا استمر ضرامُها طويلا، نحن فقط نجلي صورهم عن ذاكرتنا حتى نتمكن من العيش دون ألم.

الماضي يفيدنا في رسم طريق المستقبل

ما يفيدنا من الماضي هو الحكمة، أنا و أنت لا نستطيع تغيير الماضي، و لكن بإمكاننا جعل المستقبل مختلفا عن الماضي، كان يجب أن نخطئ لنتعلم، و لنغير، و قبل ذلك لنحقق شرطا من شروط إنسانيتنا القائمة على الخطأ و التصويب، علينا أن نحتفي بكل لحظة نعيشها الآن أو آتية، فهي أيضا ستكون طي الماضي، قال فاروق جويدة في حوارية من حواريات فلسفة الرحيل إلى المستقبل:

أنا ليلةٌ حارَ الزمانُ بسحرِها

عمرُ الحياةِ يُقاسُ بالزمنِ السعيد

و لتسألي عينيك أين بريقها؟

ستقول في ألمٍ: توارى،

صارَ شيئا من جليد.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.