أسبالتا

الأزمات و التحديات و المساحة الآمنة

كتبت: رشا المرضي.

مع تسارع وتيرة أحداث الحياة تولد الأزمات النفسية و الاجتماعية التي تعصف بالأفراد و المجتمعات على حد سواء؛ مما يلفت إلى أهمية وجود المساحة الآمنة.

لم يعد إيجاد مساحة آمنة رفاهية، بل بات ضرورة ملحة تمنح الإنسان شعورا بالأمان و القبول و تقدم له الدعم النفسي، و تتيح له التعبير بحرية دون خوف من الرفض أو السخرية.

يُعرّف علماء الاجتماع “المساحة الآمنة” بأنها بيئة خالية من التهديدات بمختلف أشكالها، سواء كانت نفسية أو لفظية أو جسدية، حيث يمكن للفرد أن يعيش بطبيعته دون الحاجة إلى ارتداء قناع أو الخضوع لمراقبة دائمة.

و يؤكد علم الاجتماع أن الهوية الإنسانية تتشكل من خلال التفاعل الاجتماعي، لكنها قد تنهار تحت وطأة الأحكام و المراقبة، مما يجعل من المساحة الآمنة ضرورة لبناء النفس و العقل والاتزان السلوكي.

و تشير الدكتورة سارة أحمد، الاختصاصية النفسية، إلى أهمية توفير مساحة آمنة في الجلسات العلاجية و حتى في العلاقات اليومية، و تؤكد أن الإنسان بحاجة إلى بيئة لا يكون فيها مهددا أو خاضعا للحكم من الآخرين، حيث يمكنه التعبير عن نفسه دون خوف من السخرية أو النقد، وأن يُستمع إليه بتعاطف و احترام.

المساحة الآمنة ضرورة لا يجب إغفالها

و تؤمن الدكتورة بأن المساحة الآمنة ضرورية للشفاء و النمو النفسي، و غالبًا ما تبدأ من الداخل، عندما نكون لطفاء مع أنفسنا، نستطيع حينها أن نبني هذه المساحة مع الآخرين.

المساحة الآمنة، كما تصفها، ليست عزلة عن العالم، بل بيت صغير داخل عالم كبير، نلجأ إليه للتعبير بلا خوف، لنصادق فيه أنفسنا، و نعزز الثقة و الشعور بالاحترام والأمان.

و لا تقتصر أهمية المساحة الآمنة على الأفراد، بل تشمل المجتمعات التي تسعى لتكريس التنوع الثقافي و التفاهم الاجتماعي.

و بحسب مبادئ التوعية المجتمعية، يمكن تقسيم المسؤولية تجاه خلق هذه المساحات إلى ثلاثة محاور رئيسية: أولها الاستماع و تقليل الانفعال و تجنب الإيذاء اللفظي أو العاطفي، ثم احترام الخصوصية و عدم إفشاء المعلومات الشخصية، وأخيرًا التدخل الإيجابي عند ملاحظة أن أحدهم لا يشعر بالأمان.

يتطلب الأمر أيضًا وضع مبادئ واضحة للسلوك، تمنح كل فرد حق التعبير و المشاركة، و مراقبة المواقف الطارئة داخل المؤسسات، إلى جانب إنشاء سياسات رسمية لمتابعة الشكاوى و تعزيز ثقافة الاحترام و الاحتواء.

في مجتمعاتنا، لا تزال فكرة المساحة الآمنة تواجه تحديات كبيرة، بسبب التقاليد، و الأحكام المسبقة، و نظرة “العيب” التي تمنع الأفراد من التعبير بحرية.

كثيرون يكبتون مشاعرهم، و يخفون هوياتهم، و يصمتون عن مشكلاتهم خوفًا من التهميش أو السخرية.

إن إنشاء المساحات الآمنة مسؤولية جماعية تتطلب وعيًا و تدريبًا و استعدادًا حقيقيًا للاستماع و الاحتواء.

حين يشعر الإنسان أنه مسموع وغير مدان، تزدهر إنسانيته، و عندما نخلق هذه المساحات، نعيد شيئًا من التوازن لعالم يعاني من الضجيج والخوف،
لذلك بات من الضروري أن نعيد النظر في علاقتنا ببعضنا، أن نمنح الآخر الحق في أن يكون ضعيفًا، أن يستريح، أن يتكلم دون أن نُقاطع أو نحكم، فالمساحة الآمنة ليست مكانًا فحسب، بل سلوك إنساني نحتاج إلى تبنيه لنمنح أنفسنا و الآخرين بعض السلام.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.