بقلم: د. أبي عادل القاسم.
في عالم تتسارع فيه التحولات الاجتماعية و تمحى فيه الحدود بين الثقافات عبر منصات الاتصال المفتوح تبرز الحاجة الملحة إلى التربية الجنسية كجزء أساسي من منظومة التربية الحديثة خصوصاً لدى الأطفال، ليس من باب الترف أو المجاراة الثقافية، و إنما من باب الضرورة التربوية و النفسية التي تسهم في تنشئة جيل واعي بذاته، مدرك لحدوده، و محصن نفسياً و معرفياً أمام ما قد يواجهه من تحديات في مراحل نموه المختلفة.
إن الحديث عن التربية الجنسية للأطفال ليس انتهاكاً للبراءة، بقدر ما هو حماية لها.
التربية الجنسية ماذا نعني بها ؟
التربية الجنسية لا تعني الحديث الصريح أو الخوض في تفاصيل العلاقة الجنسية كما يظن البعض، بل هي عملية تربوية ممنهجة تبدأ منذ الطفولة تهدف إلى إكساب الطفل فهماً تدريجياً و سليماً لطبيعة جسده و حدود خصوصيته و الفروق بين الجنسين (الذكر والأنثى) و مهارات الحماية من التحرش إضافة إلى ترسيخ مبادئ الاحترام و المسؤولية تجاه الجسد و النفس والآخر.
من الناحية النفسية، تعد التربية الجنسية أداة وقائية تسهم في بناء تصور سليم للهوية الجسدية و النفسية للطفل و تقلل من فرص تعرضه لصدمات نفسية مرتبطة بسوء الفهم أو الاعتداء أو الشعور بالذنب تجاه الأسئلة الطبيعية المرتبطة بالجسد والنمو.

أهمية التربية الجنسية في مرحلة الطفولة من منظور نفسي
تشير الدراسات النفسية إلى أن الأطفال يبدؤون في تكوين تصورات حول أجسادهم و أدوارهم الجندرية منذ سن مبكرة، و قد يطرحون تساؤلات مثل: “من أين يأتي الأطفال؟” أو “لماذا جسد أختي مختلف عني؟” و غيرها من الأسئلة التي غالباً ما تقابل بالتجاهل أو الانتهار أو الإحراج، مما يؤدي إلى غرس مشاعر الخوف أو العيب أو الذنب تجاه الجسد و الجنس.
من منظور علم النفس النمو فإن الاستجابة لهذه الأسئلة بطريقة مدروسة و مناسبة لعمر الطفل تعزز ثقته بوالديه كمصدر آمن للمعلومة و تمنحه الإحساس بالأمان الداخلي، كما أن تهميش هذه الأسئلة أو التعامل معها بعدوانية قد يدفع الطفل إلى البحث عن الإجابة في مصادر غير موثوقة أو كبت فضوله بطريقة تؤثر سلباً على نموه النفسي.

مراحل التربية الجنسية المناسبة للنمو النفسي
ينبغي أن تتدرج التربية الجنسية بحسب مراحل النمو العقلي و النفسي للطفل حتى لا يحدث لبس في المفاهيم و الاستيعاب حسب العمر، و مثال لذلك
من عمر 2 إلى 5 سنوات: التركيز يكون على تعليم الطفل أسماء الأعضاء بشكل علمي و محترم، و توضيح مفهوم “الخصوصية” و حدود اللمس الآمن وغير الآمن.
من عمر 6 إلى 9 سنوات: تزداد تساؤلات الطفل، و يجب أن يجاب عليها بطريقة مبسطة و علمية، كما ينصح بتعليمه كيف يحمي نفسه من التحرش دون إثارة الخوف أو القلق.
من 10 إلى 13 عامًا: تبدأ التغيرات الجسدية، وهنا تأتي أهمية شرح مرحلة البلوغ و التغيرات الطبيعية بطريقة مطمئنة تخفف من قلق الطفل و تشعره أن ما يمر به طبيعي و صحي.
من 14 عاماً فما فوق: يصبح الحديث أكثر نضجاً و يتضمن التوعية بمفاهيم العلاقة، المسؤولية، الضوابط الأخلاقية و الدينية، و أهمية اتخاذ قرارات مبنية على معرفة و احترام للذات و الآخر.
دور الأسرة و المؤسسات التعليمية في التربية الجنسية
تعد الأسرة هي المحطة الأولى لتلقي المفاهيم المرتبطة بالجسد والعلاقات، فالأب و الأم من خلال سلوكهم و تعاملهم مع الطفل يزرعون مفاهيم الاحترام أو الخوف أو التعتيم.
من الأهمية بمكان أن يتم إعداد الوالدين نفسياً و ثقافياً للتعامل مع هذه الأسئلة و التحديات من خلال البرامج الإرشادية و التدريبية المتخصصة.
أما المؤسسات التعليمية فلها دور تكميلي لا يقل أهمية إذ يمكن إدماج التربية الجنسية ضمن المناهج الدراسية بطرق تربوية و نفسية تراعي الثقافة والمعتقدات المجتمعية دون أن يفهم ذلك على أنه “نشر للثقافة الجنسية” بل على أنه “تثقيف وقائي”.
التربية الجنسية كدرع نفسي ضد التحرش و الانتهاكات
إن من أبرز الأسباب التي تجعل التربية الجنسية ضرورة تربوية و نفسية هو ارتفاع نسب التعرض للتحرش في مجتمعات عدة خاصة في ظل ضعف الوعي و ثقافة “العيب”.
الأطفال الذين يتلقون تربية جنسية مبكرة هم أكثر قدرة على حماية أنفسهم و أكثر استعداداً للتبليغ في حال تعرضهم لأي اعتداء، مما يقلل من احتمالية ترسيخ صدمة نفسية لديهم قد ترافقهم طويلًا.
بين التجاهل و الحماية .. التربية الجنسية مسؤولية لا يمكن تأجيلها
لم تعد التربية الجنسية خياراُ تربوياً يمكن تجاهله بل أصبحت حاجة نفسية و اجتماعية لحماية الطفل و بناء وعيه بذاته و علاقته مع جسده و الآخرين.
إن من واجبنا كمربين و أولياء أمور و معلمين أن نعيد النظر في طرق التعامل مع هذا الموضوع الحساس و نخرجه من دائرة “العيب” إلى فضاء “الوعي”، فالمعرفة لا تنزع البراءة و إنما تحصنها
بقلم
د ابي عادل القاسم الجاك
اختصاصي ومعالج نفسي
رقم العيادة الاونلاين
249116071234+