بقلم: د. أبي عادل القاسم.
في زحمة الحياة وضغوطها المتسارعة، أصبح الغضب من أبرز المشاعر التي تعبر عن ذاتها على نحو متكرر ومكثف في سلوكيات الأفراد.
لا يكاد يخلو يوم من لحظة فقدان السيطرة، أو انفعال غير محسوب، أو صراخ في وجه من نحب أو من لا نعرف حتى، لكن هل هذا الشعور هو دائماً تعبير مباشر عن الانزعاج؟ أم أنه ستار يخفي وراءه مشاعر أعمق وأكثر تعقيداً؟.
في هذا المقال، نغوص في عمق النفس البشرية، لنفهم ما وراء الغضب، و نكشف عن جذوره النفسية، و آثاره على الفرد والمجتمع، و كيفية التحكم به دون كبت، و معالجته دون قمع.
ما هو الغضب ؟
الغضب هو استجابة انفعالية طبيعية تظهر عندما يواجه الإنسان تهديداً، ظلماً، أو شعوراً بالإحباط، و هو في جوهره ليس شعوراً سلبياً بالضرورة، بل قد يكون وسيلة صحية للتعبير عن الحاجات أو وضع الحدود.
لكن تكمن الخطورة في شكل التعبير عن هذا الغضب، فالشعور غير المعالج أو المكبوت أو ذاك الذي ينفجر بلا ضوابط، يتحول إلى سلوك مدمر يؤذي صاحبه والآخرين.
الغضب ليس دائماً غضباً
يُخطئ كثيرون حين يظنون أن كل نوبة غضب سببها مباشر و واضح، الحقيقة أن المشاعر الغاضبة غالبًا ما تكون غطاءً لمشاعر أخرى دفينة مثل:
الألم العاطفي:
إذا تعرض الشخص للخذلان أو للفقد أو للنبذ، قد يجد في الغضب وسيلة لحماية نفسه من الألم.
القلق و الخوف:
القلق من المستقبل، الخوف من الفشل أو من فقدان السيطرة، قد يتجلى في شكل غضب عدواني.
الإحساس بعدم التقدير:
الشعور بأن الآخرين لا يقدرون الجهد أو لا يمنحون الاحترام الكافي قد يولد انفجارات غاضبة مفاجئة.
العار أو الإحراج:
في بعض الأحيان عندما يشعر الإنسان بالإهانة أو ينتقد أمام الآخرين يستخدم ردة الفعل الغاضبة كوسيلة دفاعية لحماية صورته الذاتية.

جذور الغضب تبدأ من الطفولة
يتشكل أسلوب التعامل مع المشاعر الغاضبة منذ سنوات الطفولة الأولى.
الطفل الذي لم يسمح له بالتعبير عن مشاعره بحرية أو الذي تعرض للعقاب القاسي عند كل انفعال قد يكبر وهو لا يعرف سوى طريقتين: الكبت الكامل أو الانفجار المفاجئ.
أيضاً، الأطفال الذين نشأوا في بيئات تتسم بالعنف أو الذين رأوا أحد الوالدين يستخدم الانفعال الغاضب للسيطرة أو التهديد يميلون لتكرار النمط نفسه عند البلوغ.
لكن كيف يؤثر الغضب على الصحة النفسية والجسدية؟
الغضب المستمر لا يقتصر تأثيره على العلاقات أو الأجواء الاجتماعية، بل يترك آثاراً مباشرة على الجسم والعقل. ومن أبرزها:
- ارتفاع ضغط الدم ومعدل ضربات القلب.
- اضطرابات النوم والتوتر المزمن.
- ضعف المناعة وزيادة الالتهابات الداخلية.
- الشعور بالذنب أو الندم بعد نوبات الانفعال.
- اضطرابات المزاج والاكتئاب.
كما أن الشعور الغاضب المزمن قد يؤدي إلى انسحاب اجتماعي، فقدان فرص مهنية، وتدهور العلاقات الأسرية والعاطفية.
الغضب في الحياة اليومية… نماذج واقعية
في مقابلات أُجريت مع عدد من الأشخاص من فئات عمرية ومهنية مختلفة، أظهر معظمهم أن لحظات الثورة الحادة التي مروا بها لم تكن ناتجة عن الأسباب الظاهرة فقط، بل ارتبطت غالباً بتراكمات داخلية، أو مشاعر غير مفهومة.
أحد المشاركين قال:
“كنت أصرخ في أطفالي لأتفه الأسباب، وأشعر بالندم كل مرة. لكن بعد زيارة لطبيب نفسي، اكتشفت أني كنت أعاني من ضغط العمل والتوتر المالي، ولم أكن أدرك أنني أنقل هذه الضغوط لأطفالي.”
وقال آخر:
“كنت اغضب وافتعل المشاكل مع زوجتي التي احبها وتزوجتها بعد عناء حتى اني كنت اراجع نفسي لابحث عن سبب منطقي لذلك دون جدوى ، بعد مقابلتي لمعالج نفسي اكتشفت ان غضبي بسبب معاملة والدي لأمي “.

كيف نتحكم في الغضب بطريقة صحية؟
الهدف ليس القضاء على هذا الشعور، بل إدارة ظهوره والتعامل معه بوعي، إليك بعض الاستراتيجيات النفسية الفعالة:
- الوعي بالمحفزات
تحديد ما الذي يثير غضبك بشكل متكرر هو الخطوة الأولى نحو التغيير. هل هو الإهمال؟ الظلم؟ الشعور بالاستغلال؟ كن صادقاً مع نفسك. - التنفس العميق والتهدئة الجسدية
حين تشعر بالغضب يتصاعد، توقف، خذ نفسًا عميقاً، واسمح لجسدك أن يهدأ قبل أن تتكلم أو تتصرف. - التأجيل المؤقت للرد
“سأتحدث لاحقاً عندما أكون أكثر هدوءاً” هي جملة تنقذ الكثير من العلاقات. لا بأس من تأجيل المواجهة إن كنت في قمة الشعور بالانفعال. - التعبير الصحي عن المشاعر
اكتب تحدث مع صديق أو اطلب استشارة نفسية. المهم أن تخرج ما بداخلك دون إيذاء نفسك أو الآخرين. - العلاج النفسي
يساعد العلاج السلوكي المعرفي (CBT) والعلاج بالتقبل والالتزام على تغيير أنماط التفكير المرتبطة بالغضب، وتعلم أدوات فعالة للسيطرة عليه.
هل يمكن للغضب أن يصبح قوة إيجابية؟
نعم. حين يتم توجيه هذا الشعور بشكل صحي، يمكن أن يصبح دافعاً للتغيير، ووسيلة للدفاع عن الحقوق، ومصدراً للطاقة في مواجهة الظلم. الأهم أن يكون الانفعال واعياً، لا أعمى.
في الختام
الغضب شعور إنساني طبيعي لكن عندما نغفل جذوره ونتجاهل أسبابه، يتحول إلى عدو داخلي ينهك أعصابنا ويمزق علاقاتنا. دعونا لا نخجل من الانفعال الغاضب، بل لنتعلم كيف نفهمه، كيف نستمع إليه، وكيف نروضه.
فالإنسان القوي ليس من لا يغضب، بل من يملك وعياً كافياً ليعرف متى يغضب، ولماذا، وكيف.
بقلم
أبي عادل القاسم الجاك
اختصاصي ومعالج نفسي
رقم العيادة النفسية الاونلاين
00249116071234