أثر الاعتلالات النفسية في شخصية المهاجرين إلى الغرب
بقلم: د. أبي عادل القاسم.
أثر الاعتلالات النفسية في شخصية المهاجرين إلى الغرب تحت المجهر.
تحليل علمي ونماذج واقعية
في ظل الحراك العالمي المتزايد أصبحت الهجرة إلى الغرب خياراً شائعا تسلكه أعداد متزايدة من الأفراد لأسباب متعددة تشمل البحث عن فرص أفضل الأمان أو الهروب من صراعات داخلية إلا أن هذه الخطوة رغم ما تحمله من وعود ليست خالية من الأعباء النفسية.
أظهرت دراسات نفسية متعمقة أن الاعتلالات النفسية تشكل جزءاً لا يستهان به من تجربة المهاجر، و لها أثر مباشر في بنية شخصيته و تكيفه في المجتمع الجديد.
صدمة الانتقال و فقدان الانتماء إحدى تمظهرات الاعتلالات النفسية في شخصية المهاجرين إلى الغرب
يواجه العديد من المهاجرين في الغرب ما يعرف بصدمة الثقافة المضادة و هي حالة نفسية ناتجة عن التصادم بين منظومة القيم و المعتقدات التي نشأ عليها الفرد و تلك السائدة في المجتمع الجديد.
هذا التصادم غالباً ما يفضي إلى مشاعر الاغتراب الانفصال وأحياناً فقدان الهوية،
فالمهاجر ينتقل من بيئة مألوفة إلى سياق جديد يفرض عليه أن يعيد تشكيل صورته عن الذات و حدوده الاجتماعية.
في إحدى الحالات رصدت دراسة نفسية حالة رجل ثلاثيني لجأ إلى أوروبا بعد صراعات سياسية في بلاده بعد مضي عام بدأ يعاني من اضطرابات في النوم فقدان للشهية و نوبات قلق متكررة.
التشخيص أظهر أنه يعاني من اضطراب كرب ما بعد الصدمة (PTSD) بسبب ما تعرض له في بلده لكن ما فاقم حالته هو العزلة الاجتماعية في المهجر و عدم قدرته على الاندماج، تحولت شخصيته من إنسان اجتماعي مبادر إلى شخص منطو خائف من التواصل.

الهوية والانقسام الداخلي عند المهاجرين
من أبرز التحولات النفسية التي تطرأ على المهاجرين هو ما يعرف بانقسام الهوية، حيث يجد الفرد نفسه ممزقاً بين هويته الأصلية و الثقافة الجديدة التي يطالب بالاندماج فيها.
هذا الصراع الداخلي في حال لم يدار بشكل سليم قد يؤدي إلى مشكلات مثل القلق المزمن، و اضطراب الاكتئاب، و أحيانًا السلوكيات القهرية أو العدوانية تجاه الذات والمجتمع.
في حالة أخرى أظهرت متابعات حالة شابة مهاجرة تعيش في إحدى المدن الغربية منذ خمس سنوات أنها تعاني من اكتئاب مقنع بسبب محاولاتها المستمرة لتناسب الصورة النمطية للمرأة الغربية المستقلة، كانت تعيش ازدواجية مؤلمة بين قيم عائلتها المحافظة و توقعات المجتمع الجديد مما أدى إلى ضعف ثقتها بنفسها و تراجع تقديرها لذاتها.
التمييز والإقصاء وتأثيرهما في تكوين الشخصية
التمييز العرقي و الديني و الاقتصادي الذي قد يتعرض له بعض المهاجرين في الغرب يمثل عامل ضغط نفسي كبير، فالإقصاء المجتمعي و لو بشكل غير مباشر ينتج شعوراً بالدونية و فقدان الأمان الاجتماعي.
هذه الظروف قد تسهم في تشكيل شخصية دفاعية مفرطة في الحذر تميل للعزلة أو للعدوان.
أحد النماذج التي مرت بي في عيادتي النفسية لمهاجرة شابه تعرضت للتنمر في بيئة عملها بسبب لكنتها و اسمها غير الأوروبي، أظهرت أنها بدأ بتطوير ميول اكتئابيه و أصبحت حساسة في ردود فعلها.
لاحقاً تبين أن هذه السلوكيات كانت رد فعل غير واعٍ لحماية ذاتها من الضغط النفسي الحاد.

التكيف النفسي الإيجابي
لكن رغم كل هذه التحديات ليس كل المهاجرين عرضة للاعتلالات النفسية، بعض الأفراد يتمتعون بمرونة نفسية عالية تجعلهم قادرين على تجاوز صدمات الانتقال و الاندماج بنجاح، هؤلاء غالباً ما يمتلكون مهارات تأقلم متقدمة و شبكة دعم اجتماعي قوية أو مروا بتجارب سابقة مهدتهم نفسياً للتحول الكبير.
إحدى الحالات الموثقة تتعلق بسيدة في منتصف العمر وصلت إلى إحدى الدول الأوروبية برفقة أطفالها بعد تجربة فقد قاسية، و رغم تعرضها لفترة اكتئاب قصيرة إلا أنها استطاعت لاحقاً أن تؤسس مشروعاً صغيراً و تحصل على دعم نفسي و اجتماعي حيث أن شخصيتها تطورت من التردد و الخوف إلى المبادرة و التمكين.
ختاماً
تؤكد الوقائع النفسية و السريرية أن الاعتلالات النفسية بين المهاجرين إلى الغرب ليست ناتجة عن ضعف داخلي، بل عن ضغوط معقدة تشمل الانسلاخ من المجتمع الأصلي و مواجهة ثقافة جديدة و تحديات اللغة و التمييز و الشعور بالقلق الوجودي.
هذه التجارب إن لم تجد الدعم الكافي قد تعيد تشكيل شخصية الفرد بطريقة تؤثر في جودة حياته النفسية و الاجتماعية، و
من هنا تبرز الحاجة الملحة لتوفير خدمات نفسية مخصصة للمهاجرين تأخذ في الاعتبار سياقاتهم الثقافية و تجاربهم الشخصية و تدعمهم في بناء هوية متزنة و شخصية مرنة في مجتمعاتهم الجديدة.
بقلم 🖋
ابي عادل القاسم الجاك
اختصاصي ومعالج نفسي
رقم العيادة الاونلاين واتساب
00249116071234