ما زالت الانتهاكات الواقعة على المدنيين هي العنوان الأبرز للحرب في السودان، و هو عنوان لازم هذه الحرب منذ اندلاعها في منتصف أبريل 2023 بين الجيش و الدعم السريع؛ حيث تقول التقارير الأممية بأن أكثر من 20.000 شخص قتلوا خلال الصراع، و أن 10 ملايين من السودانيين شُرِّدوا بين نازح داخل السودان و لاجئ في معسكرات بائسة في دول الجوار.
تتقاصر ردود الأفعال الدولية و الإقليمية كثيرا عن حجم المأساة التي حلت بالسودانيين، فكل أنواع الانتهاكات قد وقعت عليهم في هذا البلد المثقل بالأزمات منذ استقلاله عن التاج البريطاني في مطلع يناير 1956، غير أن الواقع تغير هذه المرة و زحفت صراعات المركز مع الهامش لتحرق المركز و هوامشه.
لقد كانت الأحداث الأخيرة في قرى و بلدات شرق الجزيرة و التي كانت امتدادا لأحداث أخرى دافعا للحديث عن مدى إدراك المسلحين لقوانين الحرب و إحاطتهم بمسؤولياتهم القانونية تجاه حماية المدنيين، و ذلك بالطبع لا يعفي مرتكبي جرائم القتل و الاغتصاب و النهب و حرق المزارع من مسؤلياتهم.
تعاطى العالم بعبارات خجولة و عاجزة مع عمليات قصف المستشفيات و مساكن المدنيين، ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يظهر فيه ضعف المؤسسة الدولية و عجزها عن درء المخاطر عن المدنيين، فقد تطاولت الأحداث في أكثر من موضع و بدا أن الأمم المتحدة تعوزها الإجراءات الناجعة التي تدفع لوقف العنف.
في الثاني من سبتمبر 1945 انجلى دخان الحرب العالمية الثانية، و أفاق العالم ليحصي خسائره على وقع المأساة، فكان أن عدَّ 85 مليون قتيل سقطوا خلال سنوات الحرب الكالحة و كان أغلبهم من المدنيين، هذا عدا أعداد الجرحى و المصابين، وحجم الخسائر الاقتصادية الهائلة، فكان لا بد من الاعتبار.
كانت اتفاقية جنيف الرابعة و التي تم إقرارها في 1949 أول اتفاقية تختص بحماية المدنيين خلال النزاعات المسلحة، و تناول البرتكول الثاني الملحق باتفاقيات جنيف حماية السكان المدنيين في النزاعات المسلحة غير الدولية؛ مما جعل الاتفاقيات أكثر شمولا لكل أحوال المدنيين أثناء النزاعات المسلحة التي تحدث بين أي أطراف، فقد جعلت الاتفاقية لكل شخص متواجد في ساحة الحرب تعريفا واضحا ينص على حقوقه سواء كان عسكريا أو مدنيا.

من هو الشخص المدني المحمي من الانتهاكات
حتى تنطبق الأحكام كان لابد من منع تداخل المعاني و العمل على تحري توصيف دقيق للشخص ” المدني”، و كل من لا يشارك في القتال يعتبر شخصا مدنيا، و لتوضيح المعنى المقصود بشكل أكثر دقة فقد اعتبرت الاتفاقيات أن صفة “المدني” هي الصفة التي تغلب في حالة الشك في كون شخص ما عسكريا أو مدنيا.
في مسارح الحروب يوجد الكثير من الأشخاص الذين لا يحملون الصفة العسكرية، ومع ذلك فإن وجودهم منطقي و حتمي؛ و من أولئك السكان المحليون الذين يقطنون المنطقة التي يثور داخلها النزاع المسلح، و من أولئك المدنيين الأشخاص العاملون في الحقل الإنساني، و الكوادر الطبية، و الصحفيون الميدانيون، وغيرهم ممن يحملون صفة ” شخص مدني” و هؤلاء تشملهم الاتفاقية بالحماية.
تنص اتفاقيات جنيف بوضوح على تجريم توجيه الأخطار إلى الأشخاص المدنيين الذين عرَّفتهم الاتفاقية و شملتهم بالحماية، ناصَّةً على عدم جواز جعل المدنيين محلا للهجوم، مع وجوب حمايتهم ضد الهجمات العشوائية، التي تصيب الأشخاص و المباني عسكرية و مدنية دون تمييز.
لا شك في أن توجيه الآلة العسكرية ضد المدنيين من سكان و عاملين صحيين و صحفيين و تدمير البنيات التي تخدمهم من الجرائم الكبرى التي تعاقب عليها القوانين الدولية و الوطنية، و هي جرائم لا تسقط بالتقادم، و لايجوز فيها العفو عن الحق الخاص.
أما التشريعات السماوية فقد جعلت من الحرب فعلا مضبوطا بالأخلاق و القيم الإنسانية، فالإسلام الذي حض على الإيثار على النفس في إطعام الأسير، حرَّم قتل الطفل و المرأة و العابد المنقطع للعبادة، وحرَّم قتل من لم يقاتل، و منع إهلاك الحرث و قطع الأشجار، و تلك هي عقيدة الحرب في الإسلام.
الحالة السودانية في حرب أبريل المشؤومة تنبئ بوضوح عن التقصير في تأهيل المقاتلين و قادتهم، حيث يعتبر الالتزام باتفاقية حماية المدنيين جانبا مهما من التأهيل العسكري في الجيوش النظامية، و مدى علم العسكريين بهذه الاتفاقيات هو الفيصل في كثير من الأوقات بين كونهم عسكريين شرعيين يمثلون دولة أو كونهم عصابة مسلحة خارجة عن القانون؛ و ذلك ما يفسر حجم الانتهاكات و تنوعها على أشخاص لا حول لهم ولا قوة و لا ذنب سوى أنهم تواجدوا حيث يسكنون.