تقارير و مقالات

الهوية الجنسية: بين الفطرة و العوامل الاجتماعية

قراءة نفسية ودينية في جدلية التكوين
  • ما هي الهوية والميول الجنسية؟

كتب: د. أبي عادل القاسم.

تُعد الهوية الجنسية من أكثر المفاهيم الإنسانية تعقيداً وتشابكًا، إذ تقع في نقطة تلاقي بين البيولوجيا والاجتماع والنفس والدين. فالسؤال الذي ظل مثار جدل واسع هو:
هل تتشكل الهوية الجنسية بالفطرة التي يولد بها الإنسان؟ أم أنها نتاج للعوامل الاجتماعية والتربوية التي تحيط به منذ الطفولة؟.


هذا المقال يحاول أن يستقصي الحقيقة من منظور علم النفس الحديث، مع استحضار الرؤية الدينية التي طالما كانت ضوءاً مرشداً في فهم طبيعة الإنسان.

أولاً: تعريف الهوية الجنسية وتمييزها عن الميول والسلوك


في علم النفس، تُعرّف الهوية الجنسية بأنها إحساس الفرد الداخلي والمستقر بانتمائه الجنسي، أي شعوره بأنه ذكر أو أنثى أو كليهما أو لا شيء منهما.
وتُميز الدراسات بين ثلاثة مستويات مترابطة ولكن مستقلة نسبياً:

  • الهوية الجنسية (Gender Identity): كيف يرى الإنسان نفسه من الداخل.
  • النوع الاجتماعي (Gender Role): السلوكيات والتوقعات الاجتماعية المرتبطة بكل جنس.
  • الميول الجنسية (Sexual Orientation): إلى من ينجذب الفرد عاطفياً وجنسياً.

  • إذاً فالموضوع لا يتعلق فقط بالأعضاء الجسدية، بل أيضاً بما يدور في عالم النفس والوعي.
الهوية الجنسية
هل تتشكل الهوية الجنسية بالفطرة التي يولد بها الإنسان؟

ثانيا: الفطرة كمنطلق بيولوجي ونفسي


منذ ولادة الإنسان، تظهر عليه مؤشرات فطرية تميز الذكر عن الأنثى، ليس فقط في التكوين الجسدي، بل أيضاً في الهرمونات وسلوك اللعب والانتباه والميل للتفاعل.


فالدراسات العصبية (مثل دراسات “سايمون بارون-كوهن” في كامبريدج) تشير إلى وجود فروقات واضحة في الدماغ بين الذكور والإناث تؤثر على التفاعل الاجتماعي والتعاطف والإدراك المكاني.


هذا يعني أن الفطرة تلعب دوراً أساسياً في تشكيل الشعور بالجنس والانتماء إليه.


لكن علماء النفس لا يكتفون بتفسير الفطرة بمعناها الجسدي فقط، بل يرونها أيضًا منظومة وجدانية داخلية تجعل الطفل منذ صغره يشعر بانتمائه لجنسه، ويبحث عن أدواره الاجتماعية وفق ذلك الانتماء.


وهنا يتجلى قول الله تعالى في القرآن الكريم:
“وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى” (النجم: 45).
فالخَلق هنا ليس شكلاً جسدياً فحسب، بل نظاماً وجودياً كاملاً من الفطرة والتكامل.

ثالثاً: العوامل الاجتماعية… حين تتدخل البيئة في توجيه الهوية


رغم أن الفطرة تُعد نقطة البداية، إلا أن البيئة الاجتماعية تشكل المحيط الذي ينمو فيه هذا الإحساس.
فالطفل يتعلم منذ سنواته الأولى من خلال النمذجة والتقليد والمكافأة ما هو “المناسب” لجنسه.


فعندما تُشجّع الفتاة على اللعب بالدمى والولد على السيارات، فإن المجتمع هنا يعزز الفروق السلوكية ويغرس ببطء مفهوم “الهوية الجندرية” الاجتماعية.
لكن الأمر لا يتوقف عند السلوك، فالدراسات الحديثة (مثل أعمال جوديث بتلر في نظرية الجندر) ترى أن الهوية الجنسية ليست ثابتة بالضرورة، بل هي نتاج أداء متكرر داخل سياق ثقافي.
أي أن الفرد قد “يتعلّم” كيف يكون ذكراً أو أنثى من خلال الأدوار المفروضة عليه.
ومع مرور الوقت، قد تؤدي الضغوط الاجتماعية أو التوقعات الأسرية أو التجارب الصادمة إلى اضطراب في تكوين الهوية الجنسية، وهو ما تسميه منظمة الصحة العالمية بـ”اضطراب الهوية الجندرية”.


من هنا يمكن القول إن العوامل الاجتماعية لا تُنشئ الفطرة، لكنها قادرة على تشويهها أو دعمها بحسب طريقة التفاعل الأسري والتربوي.

الهوية الجنسية
كيف يرى الإنسان نفسه من الداخل؟

رابعاً: البعد النفسي في تشكيل الهوية


من منظور علم النفس التحليلي، يرى “إريك إريكسون” أن الهوية، بما في ذلك الجنسية منها، تتشكل تدريجيًا عبر مراحل النمو النفسي، خاصة في مرحلة المراهقة، حين يبدأ الفرد بطرح سؤال “من أنا؟”.
وهنا، إذا واجه الفرد تناقضاً بين فطرته وبين ما يلقنه المجتمع، فقد يعيش صراعاً داخلياً يظهر على شكل قلق، اكتئاب، أو انغلاق هووي.


في المقابل، تُشير دراسات العلاج النفسي الإنساني إلى أن تقبل الذات — بما في ذلك الجنس البيولوجي — هو مفتاح التوازن النفسي.
حين يقبل الإنسان ما هو عليه، دون إنكار أو رفض، يستطيع أن يعيش بانسجام مع جسده ومع ذاته.

خامساً: نظرة الدين الإسلامي


يرى الإسلام أن الهوية الجنسية جزء من الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
فقد خُلق الإنسان ذكراً أو أنثى، ولكل منهما خصائص ووظائف تكاملية لا تفاضلية.


يقول تعالى:
“يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا” (الحجرات: 13).
فالفطرة في التصور الإسلامي ليست مجرد ميل بيولوجي، بل نظام إلهي يحقق التوازن النفسي والاجتماعي.


ومن هنا، فإن أي محاولة لتغيير الجنس أو التمرد على الهوية الفطرية تُعد في المنظور الشرعي خروجاً عن الفطرة التي ارتضاها الله للإنسان، إلا في الحالات الطبية التي يكون فيها اضطراب خلقي واضح في الأعضاء التناسلية (ما يسمى بالخنثى المشكل).

أجاز الفقهاء التدخل الطبي لإثبات الجنس الحقيقي وليس تغييره.


كما يؤكد علماء النفس المسلمون أن الاستقرار النفسي يتحقق بالتصالح مع الفطرة، وأن ما يعانيه بعض الأفراد من اضطراب الهوية يحتاج إلى احتواء نفسي وإرشاد رحيم لا إلى إدانة أو نبذ.

ذلك لأن المعالجة الدينية يجب أن تكون رحيمة لا قمعية، تتعامل مع المعاناة لا مع الهوية كذنب.

سادساً: بين الفطرة والاكتساب — رؤية تكاملية


إن الصراع بين “الفطرة” و”الاجتماع” في تشكيل الهوية الجنسية ليس صراع تضاد بل تفاعل.
فالفطرة تُعطي الاتجاه، والبيئة تُنظم المسار، والدين يُرشد إلى التوازن.
فلا يمكن إنكار أن بعض العوامل البيئية (كالتربية القاسية، غياب الأب، العنف الجنسي، أو التنمر على المظهر الجسدي) قد تخلق اضطراباً في إحساس الفرد بجنسه.
لكن هذا لا يعني أن الهوية الجنسية مكتسبة بالكامل، بل إنها تتشكل في نقطة التقاء بين الوراثة والنفس والمجتمع.
وهنا يأتي دور الاختصاصيين النفسيين في مساعدة الأفراد على فهم ذواتهم دون إصدار أحكام، مع توجيههم نحو التوافق النفسي مع فطرتهم الأصلية بطريقة إنسانية تحترم كرامتهم ومشاعرهم.

سابعاً: نحو فهم أكثر رحمة وإنسانية


إن الجدل حول الهوية الجنسية لن يُحسم بالإنكار أو التطرف، بل بالفهم العميق.
فالإنسان، أياً كانت حالته، يظل مخلوقاً مكرماً، يستحق الدعم والإرشاد والعلاج لا التهميش.
وفي النهاية، تبقى الفطرة هي الأصل الذي يوجهنا نحو الاتزان، والدين هو البوصلة التي تمنحنا المعنى، والعلم هو الأداة التي تفسر وتداوي.

خاتمة
الهوية الجنسية إذن ليست مجرد مسألة فطرية خالصة ولا مكتسبة خالصة، بل هي رحلة تكامل بين ما يولد به الإنسان وما يتعلمه وما يؤمن به.
فالفطرة هي البداية، والتربية تشكل المسار، والدين يضع الضوابط، والعلم النفسي يكشف الأعماق.
ومن هذا التوازن تنشأ الهوية السليمة التي تعبر عن إنسان يعرف نفسه، يتقبل جسده، ويعيش في سلام مع روحه.

بقلم 🖋
أبي عادل القاسم الجاك
اختصاصي ومعالج نفسي
رقم العيادة الاونلاين واتساب
00249116071234

أسبالتا

شبكة أسبالتا الإخبارية (Aspalta News)، منصتكم الأولى لمتابعة آخر أخبار السودان اليوم على مدار الساعة. نقدم تغطية شاملة وموثوقة للأحداث السياسية، الاقتصادية، الرياضية، والثقافية، بالإضافة إلى تقارير حصرية وتحليلات معمّقة تساعدكم على فهم المشهد السوداني والعالمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى