تقارير و مقالات

النمذجة الإيجابية و السلبية للأطفال في التربية

كيف نصنع النموذج الذي يُشكِّل وعي الأطفال و سلوكهم؟
  • أثر القدوة على الأطفال أقوى أساليب التربية

بقلم: د. أبي عادل القاسم.

النمذجة الإيجابية و السلبية للأطفال صفحة مهمة في أساسيات التربية.

في عالم التربية، لا يوجد تأثير أقوى من “النموذج” الذي يراه الطفل أمامه يومياً.

الأطفال لا يتعلمون فقط من خلال التوجيه المباشر أو التعليم الأكاديمي، بل يتعلمون قبل ذلك كله من الملاحظة و التقليد، و هي عملية تُعرف في علم النفس باسم “النمذجة” (Modeling).

النمذجة ليست مجرد سلوك يراه الطفل و يقلده، بل هي أداة تربوية نفسية عميقة تشكل شخصيته، و تؤسس لقيمه و مفاهيمه حول ذاته و العالم من حوله.

ما المقصود بالنمذجة الإيجابية و السلبية للأطفال؟

النمذجة هي عملية تعلم غير مباشرة، يتم فيها اكتساب السلوك من خلال مشاهدة الآخرين و تقليدهم، سواء كانوا الوالدين أو المعلمين أو الأقران أو الشخصيات المؤثرة في الإعلام،
و قد أوضح عالم النفس الشهير ألبرت باندورا، من خلال نظريته في التعلم الاجتماعي، أن الطفل لا يتعلم من خلال الثواب و العقاب فقط، بل من خلال ملاحظة السلوكيات و نتائجها على الآخرين
فإن رأى الطفل سلوكاً إيجابياً يتم مكافأته، سيحاول تقليده، و إن رأى سلوكاً سلبياً يتم تجاهله أو معاقبته، سيتجنب تكراره.

النمذجة الإيجابية: التربية بالقدوة

النمذجة الإيجابية هي عندما يقدم الكبار، سواء الوالدين أو المعلمين أو القادة أو المؤثرين ، نموذجاً سلوكياً صحياً، يعكس القيم التي يرغبون في ترسيخها لدى الأطفال، فعندما يرى الطفل والده يتحكم في انفعالاته، أو والدته تتحدث باحترام حتى في الخلاف، فإنه يتعلم عملياً كيف يتعامل مع المواقف المشابهة.

النمذجة الإيجابية هي التربية بالفعل قبل القول، و هي أكثر تأثيراً من آلاف الكلمات.

النمذجة الإيجابية و السلبية للأطفال
علينا أنا نلتزم بما يجب أن نحب أن نرى أطفالنا عليه

أمثلة على النمذجة الإيجابية:

  • عندما يرى الطفل والديه يعتذران لبعضهما بعد خلاف، يتعلم ثقافة الاعتذار و المسؤولية.
  • عندما يلاحظ الأب و هو يساعد جاراً مسناً، يتعلم معنى التعاطف و المساعدة.
  • عندما يرى أمه تحافظ على النظام و النظافة، يكتسب الانضباط و السلوك المنظم.
  • عندما يلاحظ أن والديه يعبران عن مشاعرهما بصدق و احترام، يتعلم التواصل العاطفي السليم.

في هذه اللحظات اليومية البسيطة، تُزرع في داخل الطفل القيم و المعتقدات و السلوكيات التي ستشكل هويته لاحقاً.

النمذجة السلبية:

حين نصنع المشكلة دون أن نشعر
على النقيض، فإن النمذجة السلبية تحدث عندما يُظهر الكبار سلوكيات غير صحية أمام الأطفال — فيتعلم الطفل بطريقة غير مباشرة ما لا ينبغي أن يتعلمه.

فالطفل الذي يرى أحد والديه يصرخ باستمرار، أو يكذب، أو يتعامل بعدوانية، يبدأ في ترسيخ هذه الأنماط كسلوك طبيعي و مقبول.

أمثلة على النمذجة السلبية:

  • عندما يسمع الطفل والده يستخدم كلمات جارحة في الغضب، يتعلم أن الغضب يبرر الإيذاء اللفظي.
  • عندما تشتكي الأم من الآخرين أمامه بطريقة مستمرة، يتعلم النقد و التشكي بدل الحل.
  • عندما يرى أحد الوالدين يخالف القوانين أو يتهرب من المسؤولية، يتعلم اللامبالاة و الأنانية.
  • عندما يعيش في بيئة يسودها الصراخ و التوتر، يترسخ داخله مفهوم أن العنف وسيلة للتعبير.

هذه النماذج السلبية لا تُؤثر فقط على السلوك، بل على الصحة النفسية و العاطفية للطفل، إذ تُشعره بالارتباك و عدم الأمان و تقلل من قدرته على الثقة بالذات و بالآخرين.

الأثر النفسي للنمذجة في تكوين الشخصية

النمذجة لا تترك أثراً مؤقتاً؛ بل تساهم في بناء الهوية النفسية و السلوكية للطفل.

ففي السنوات الأولى من العمر، يكون الدماغ في أعلى درجات المرونة و التأثر، مما يجعل كل مشهد يراه الطفل و كل تفاعل يعيشه بمثابة “برمجة داخلية” تُشكل ردود أفعاله المستقبلية.

  • من خلال النمذجة الإيجابية يتعلم الطفل ضبط الانفعالات، و المرونة، و التعاطف، و حل المشكلات بطريقة هادئة.
  • ومن خلال النمذجة السلبية يتطور لديه التوتر، الخوف، العدوانية، أو ضعف تقدير الذات.

أحد الجوانب النفسية العميقة للنمذجة أن الطفل لا يفرق بين “الصحيح و الخاطئ” في اللحظة الأولى، بل يرى ما يفعله من يحبهم على أنه “الطبيعي”.

و لهذا فإن أخطر ما يمكن أن يحدث هو التناقض التربوي، حين يُقال للطفل “لا تكذب”، بينما يرى والده يكذب أمامه؛ أو يُقال له “كن صادقاً”، بينما يرى سلوكاً مغايراً.

هذا التناقض يسبب ارتباكاً معرفياً و نفسياً يجعل الطفل يفقد الثقة في التوجيهات و يبحث عن مرجعية خارج الأسرة.

النمذجة الإيجابية و السلبية للأطفال
علينا أنا نلتزم بما يجب أن نحب أن نرى أطفالنا عليه

كيف نستخدم النمذجة الإيجابية في التربية اليومية؟

  • كن ما تريد أن تراه في طفلك
    لا تقل له “احترم الآخرين” بل أظهر له كيف يكون الاحترام في حديثك و تصرفاتك.
  • شارك طفلك المواقف التربوية الواقعية
    عندما تخطئ أمامه، اعترف بخطئك و اعتذر.

هذه لحظة تعلم قوية تغرس معنى المسؤولية.

  • أظهر سلوكيات الهدوء والانضباط في المواقف الصعبة.

الأطفال يراقبون ردود أفعالنا أكثر من كلماتنا.

  • تحدث بإيجابية عن الناس
    تجنب الانتقاد و التشكي أمامهم، لأنهم يتعلمون طريقة التفكير من حديثنا اليومي.
  • أظهر مشاعرك بصدق و اتزان
    عبر عن الفرح، الحزن، الغضب، و لكن دون مبالغة أو عنف، ليتعلموا أن المشاعر طبيعية و يمكن التعبير عنها بأمان.

دور الإعلام والمجتمع في النمذجة

لم تعد النماذج التي يراها الطفل محصورة في أسرته، فاليوم أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي و الأفلام و الرسوم المتحركة مصدراً أساسياً للنمذجة.

لذلك من المهم أن يكون الوالدان واعيين بمحتوى ما يشاهده الطفل، و أن يناقشوه بطريقة مفتوحة:
“ما رأيك في تصرف البطل؟”
“هل تعتقد أن ما فعله صحيح؟ ولماذا؟”
هذه الحوارات البسيطة تُحول المشاهدة إلى تجربة تعلم، و تساعد الطفل على التمييز بين السلوك المقبول و المرفوض.

الخلاصة: أنت قدوة قبل أن تكون مربّياً
كل والد، كل معلم، كل شخص يتعامل مع الأطفال، هو نموذج حيّ يتعلم منه الصغار ما يعنيه أن تكون إنساناً،
فالتربية بالنمذجة ليست خياراً، بل حقيقة حتمية تحدث يومياً شئنا أم أبينا
إما أن نكون قدوة إيجابية تزرع الثقة و التوازن،
أو قدوة سلبية تزرع الخوف و الاضطراب
لذلك، قبل أن نطلب من أطفالنا أن يتحسنوا، علينا أن نراجع أنفسنا:
هل نقدم ما نريده منهم في سلوكنا؟
هل نُظهر أمامهم ما نودّ أن يصبحوا عليه؟
حين نُدرك أن أعينهم تراقبنا في كل لحظة، سنتعامل مع كل فعل و كلمة كأنها رسالة تربوية تُبنى بها شخصياتهم المستقبلية.
فالتربية بالنمذجة ليست تعليماً بالكلام، بل بالحياة ذاتها

بقلم 🖋
أبي عادل القاسم الجاك
اختصاصي ومعالج نفسي
رقم العيادة الاونلاين واتساب
00249116071234

أسبالتا

شبكة أسبالتا الإخبارية (Aspalta News)، منصتكم الأولى لمتابعة آخر أخبار السودان اليوم على مدار الساعة. نقدم تغطية شاملة وموثوقة للأحداث السياسية، الاقتصادية، الرياضية، والثقافية، بالإضافة إلى تقارير حصرية وتحليلات معمّقة تساعدكم على فهم المشهد السوداني والعالمي.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى