
- الحماية الزائدة و التسلط و علاقتهما بعقدة النقص
كتب: د. أبي عادل القاسم.
هل شعرت يوماً بأنك أقل من الآخرين أو أن إنجازاتك لا ترقى إلى مستوى التوقعات؟.
هل تسيطر عليك أفكار سلبية حول قدراتك و قيمتك و تعيقك عن تحقيق طموحاتك؟.
إن هذه المشاعر و إن كانت عابرة لدى البعض إلا أنها قد تتجذر لدى آخرين لتشكل ما يعرف بـعقدة النقص، هذه العقدة النفسية العميقة ليست مجرد شعور عابر بالدونية بل هي نمط تفكير و سلوك متكامل يؤثر بشكل كبير على تشكيل الشخصية و العلاقات الاجتماعية و حتى المسار المهني للفرد.
في هذا المقال سنتعمق في فهم هذه الظاهرة النفسية و نستكشف جذورها و تأثيراتها المتعددة، و نقدم استراتيجيات عملية لتجاوزها و تحقيق حياة أكثر إشباعاً و ثقة بالنفس.
ما هي عقدة النقص؟
تُعرف عقدة النقص (Inferiority Complex) في علم النفس بأنها شعور عميق و مزمن بالدونية و عدم الكفاية ينبع من مقارنة الفرد لنفسه بالآخرين و شعوره بأنه أقل منهم في الجمال أو الذكاء، أو القدرات أو الإنجازات.
على الرغم من أن هذا الشعور يمكن أن يكون موضوعياً في بعض الأحيان (على سبيل المثال عندما يكون شخص ما أقل طولاً أو أضعف جسدياً) إلا أن عقدة النقص غالباً ما تكون غير منطقية و غير متناسبة مع الواقع حيث يضخم الفرد عيوبه المتصورة و يقلل من شأن إيجابياته.
يعود الفضل في صياغة هذا المصطلح إلى عالم النفس النمساوي ألفريد أدلر، أحد رواد المدرسة الفردية في التحليل النفسي.
يرى أدلر أن الشعور بالنقص هو جزء طبيعي من التجربة الإنسانية في الطفولة، حيث يعتمد الطفل على الكبار و يشعر بضعفه النسبي، و مع ذلك عندما يفشل الفرد في تجاوز هذا الشعور الصحي بالنقص و يكبر و هو يحمل هذا الشعور بشكل مبالغ فيه فإنه يتحول إلى عقدة نفسية تعيق نموه و تكيفه، كما يرى أدلر أن هذه العقدة غالباً ما تكون المحرك الرئيسي للسلوك البشري حيث يسعى الأفراد المتأثرون بها إلى التعويض عن شعورهم بالنقص بطرق مختلفة إيجابية كانت أم سلبية.
جذور عقدة النقص بذور تزرع في الطفولة
تُعد مرحلة الطفولة الحجر الأساس في بناء شخصية الفرد، و غالباً ما تتشكل عقدة النقص في هذه الفترة الحساسة نتيجة لمجموعة من العوامل منها:
التربية القاسية و الانتقاد المستمر
إن الأطفال الذين يتعرضون لانتقاد مفرط أو مقارنات سلبية مع إخوتهم أو أقرانهم أو يتم توبيخهم بشكل مستمر قد يتبنون قناعة بأنهم لا يمتلكون ما يكفي من القدرات أو الصفات الجيدة، هذا السلوك التربوي يغرس في الطفل شعوراً عميقاً بعدم الكفاءة و يحد من ثقته بنفسه.
الحماية الزائدة و التسلط
على النقيض من التربية القاسية يمكن أن تؤدي الحماية المفرطة أو التسلط من قبل الوالدين إلى منع الطفل من استكشاف قدراته و مواجهة التحديات.
هذا يحد من تطور استقلاليته و شعوره بالاعتماد على الذات، مما يجعله يشعر بالعجز و النقص عندما يواجه صعوبات في وقت لاحق من حياته.
التجارب السلبية في المدرسة أو بين الأقران
التنمر و الرفض الاجتماعي أو الفشل الأكاديمي المتكرر في سن مبكرة يمكن أن يترك ندوباً عميقة في نفس الطفل مما يجعله يعتقد أنه غير محبوب و غير ذكي أو غير مقبول اجتماعياً.
الإعاقات الجسدية أو الأمراض المزمنة
الأطفال الذين يعانون من إعاقات جسدية أو أمراض مزمنة قد يتعرضون للتمييز أو الشفقة، مما قد يغرس فيهم شعورًا بالنقص الجسدي أو الاجتماعي، و مع ذلك من المهم الإشارة إلى أن الكثيرين ممن يعانون من هذه الظروف يتجاوزونها و يحققون نجاحات باهرة، مما يؤكد أن العقدة تنبع من التفسير الذاتي للظروف و ليس من الظروف نفسها.
البيئة الاجتماعية والاقتصادية
الفقر، التمييز، أو العيش في بيئة تفتقر إلى الفرص يمكن أن يساهم في شعور الفرد بالدونية خاصة إذا كان يرى الآخرين يتمتعون بامتيازات لا يمتلكها.

تأثير عقدة النقص في تشكيل الشخصية
تنعكس عقدة النقص على شخصية الفرد بعدة طرق و تؤثر على سلوكه و طريقة تفكيره و علاقاته.
البحث عن الكمال المفرط
يسعى الأفراد المصابون بعقدة النقص إلى التعويض عن شعورهم بالدونية من خلال السعي المفرط للكمال. قد يصبحون مدمنين على العمل أو يسعون للحصول على الإشادة من الآخرين أو يحاولون إثبات تفوقهم في مجالات معينة، ومع ذلك فإن هذا السعي غالباً ما يكون مرهقاً و غير مُرضٍ حيث لا يشعرون أبداً بأنهم جيدون بما يكفي.
الحساسية المفرطة للنقد
يميل الأشخاص الذين يعانون من عقدة النقص إلى أخذ النقد بشكل شخصي للغاية حتى النقد البناء يرون في كل تعليق سلبي تأكيداً لشعورهم المتأصل بالدونية مما يدفعهم إلى الانسحاب أو الدفاع بقوة.
الخوف من الفشل وتجنب المخاطر
يعيق الخوف الشديد من الفشل الأفراد المصابين بعقدة النقص عن تجربة أشياء جديدة أو خوض تحديات و يفضلون البقاء في منطقة الراحة خوفًا من تأكيد شعورهم بالدونية إذا لم ينجحوا.
الغيرة و المقارنات السلبية
يميلون إلى مقارنة أنفسهم بالآخرين بشكل مستمر و يرون في نجاحات الآخرين دليلاً على فشلهم الخاص، هذا يؤدي إلى شعور بالغيرة و الاستياء و يصعب عليهم تقدير إنجازات الآخرين.
صعوبة في العلاقات الاجتماعية
قد يواجهون صعوبة في بناء علاقات صحية بسبب انعدام الثقة بالنفس و الخوف من الرفض، قد يتجنبون المواقف الاجتماعية أو يكونون دفاعيين في تفاعلاتهم أو يبحثون عن إرضاء الآخرين بشكل مفرط.
السعي للسيطرة أو التباهي
في بعض الحالات، قد يحاول الأفراد المتأثرون بعقدة النقص التعويض عن شعورهم بالدونية من خلال محاولة السيطرة على الآخرين أو التباهي بإنجازاتهم (التي قد تكون مبالغاً فيها). هذا السلوك غالباً ما يكون بمثابة قناع لإخفاء ضعف داخلي.
القلق و الاكتئاب
على المدى الطويل يمكن أن تؤدي عقدة النقص إلى تفاقم مشاعر القلق و الاكتئاب حيث يشعر الفرد باستمرار بعدم التوفيق و يتعرض لضغوط نفسية كبيرة نتيجة سعيه للكمال و عدم قدرته على تحقيق الرضا الذاتي.

كيفية تجاوز عقدة النقص
تجاوز عقدة النقص هو عملية تتطلب الوعي الذاتي، و الصبر و العمل الدؤوب إليك بعض الاستراتيجيات الفعالة:
التعرف على جذور المشكلة
الخطوة الأولى نحو الشفاء هي فهم متى و كيف تشكلت هذه العقدة، حاول أن تسترجع ذكريات طفولتك و تحدد التجارب أو الرسائل التي ربما ساهمت في شعورك بالنقص.
يمكن أن يساعدك العلاج النفسي في هذه المرحلة على كشف هذه الجذور و معالجتها.
تحدي الأفكار السلبية
راقب أفكارك السلبية حول نفسك عندما تكتشف نفسك تفكر: “أنا لست جيداً بما يكفي” أو “لن أنجح أبداً” توقف و تحد هذه الأفكار.
اسأل نفسك برويه هل هناك دليل حقيقي على هذه الأفكار؟ هل هذه الأفكار منطقية؟ استبدل الأفكار السلبية بأخرى أكثر واقعية و إيجابية، مثل: “أنا أبذل قصارى جهدي”، أو “يمكنني التعلم و التحسن”.
التركيز على نقاط القوة و الإيجابيات
بدلاً من التركيز على ما تعتبره عيوباً، خصص وقتاً للتعرف على نقاط قوتك و مهاراتك و إنجازاتك، اكتب قائمة بهذه الإيجابيات و راجعها بانتظام ثم احتفل بنجاحاتك حتى لو كانت صغيرة.
تحديد أهداف واقعية و الاحتفال بالتقدم
تجنب السعي للكمال المفرط، ضع أهدافاً واقعية و قابلة للتحقيق، و قسم الأهداف الكبيرة إلى خطوات صغيرة احتفل بكل خطوة تنجزها فهذا يعزز شعورك بالكفاءة و الإنجاز.
تطوير مهارات جديدة
تعلم مهارة جديدة، سواء كانت لغة، آلة موسيقية، أو رياضة.
إن إتقان شيء جديد يعزز شعورك بالقدرة و يمنحك ثقة بالنفس.
بناء علاقات صحية
أحط نفسك بأشخاص داعمين و إيجابيين يؤمنون بقدراتك و يشجعونك و ابتعد عن الأشخاص الذين ينتقدونك باستمرار أو يقللون من شأنك.
تطوير الوعي الذاتي والتفكير النقدي
تعلم كيف تفصل بين هويتك الحقيقية و قيمتك كإنسان و بين الأفكار السلبية التي تفرضها عليك عقدة النقص تدرب على تقييم المواقف بموضوعية و عدم السماح للمشاعر السلبية بالسيطرة على تفسيراتك.
ممارسة الرعاية الذاتية
اهتم بصحتك الجسدية و العقلية من خلال ممارسة الرياضة بانتظام الحصول على قسط كافٍ من النوم، و تناول طعام صحي كلها عوامل تساهم في تحسين مزاجك و ثقتك بنفسك.
المساعدة المهنية
في بعض الحالات، قد تكون عقدة النقص متجذرة بعمق و تتطلب تدخلاً علاجياً حيث يمكن للمعالج النفسي المتخصص (مثل المعالج السلوكي المعرفي أو المعالج الديناميكي) أن يساعدك على استكشاف أسباب العقدة و تغيير أنماط التفكير السلبية و تطوير آليات تأقلم صحية.
ختاماً
عقدة النقص ليست قدرا محتوماً بل هي نمط تفكير و سلوك يمكن تغييره.
إن فهم هذه الظاهرة، و التعرف على جذورها و العمل على تجاوزها خطوة بخطوتين سيفتح لك آفاقاً جديدة من النمو الشخصي، و الثقة بالنفس، و الرضا عن الحياة و تذكر أن قيمتك كإنسان لا تتحدد بإنجازاتك أو بمقارنتك بالآخرين بل هي متأصلة في وجودك.
هل أنت مستعد لكسر قيود الماضي و بناء مستقبل مليء بالثقة و الإيجابية؟.
بقلم
أُبي عادل القاسم الجاك
اختصاصي و معالج نفسي
رقم العيادة الأونلاين واتساب
00249116071234