
- كثيرا ما يضيع الشخص الفرص و هو يقف أمام خيارات متعددة مترددا يسأل نفسه أيها أفضل؟
الاختيار من أصعب القرارات التي يتخذها الشخص خاصة فيما يتعلق بالمسائل المصيرية.
البحث عن الأفضل و تحسين الحياة سمة لازمت الإنسان منذ خلقه و هذا ما تظهره الغواية الأولى التي أخرج بسببها من الجنة.
يبحث الإنسان عن الأفضل في الطعام و الملبس و السكن و العلاقات الاجتماعية و الإنسانية و حتى في الأفكار التي يتبناها و يعتنقها.
يكاد النزوع نحو الأفضل أن يكون إحدى غرائز النفس البشرية التي لا يمكن استئصالها، فهي باحثة دوما عن الكمال أو الاقتراب منه، و لا ترضى ببساطة بخيار واحد إذا توافرت خيارات أخرى أفضل.
الانكباب المستمر على البحث عن الأفضل قد يتحول من أمر طبيعي إلى مشكلة، خاصة إن كانت الخيارات متعددة و كل منها يحمل ميزات فريدة و مغرية، فتنشأ الحيرة ليطرح السؤال نفسه: هل يحرم تعدد الخيارات الشخص من الاختيار فعلا؟
و هل يعبر المثل السوداني “الطمع ودر ما جمع” عن هذه الحالة و يقدم الحكمة أم أنه مثل شعبي هدَّام يقعد الناس عن التطلع؟
الاختيار و النزوع للأفضل
الميل إلى الارتقاء من طبائع النفس البشرية، و معلومٌ أن النفس لا تهدأ عند حدود معينة، مثلا إذا تبوأ شخص ما وظيفةً معينة فإنه سرعان ما يتطلع إلى الوظيفة الأعلى رتبة و مكانة، و إذا اشترى شخص سيارة جديدة، تكون الخطوة التالية هي التفكير في شراء سيارة أخرى أكثر جدة و مثالية.
هذا الأمر ليس مذموما و لا يشكل مشكلة إلا عندما تصاحبة حالة من عدم الرضا، و التي تحرم البعض الاستمتاع بما يمتلكون لأن أعينهم مركزة على ما هو ليس في حوزتهم.
و هكذا قد يصبح الاختيار مشكلة بحد ذاتها عند بعض الناس.
وفرة الخيارات جزء من روح العصر
في قرون خلت لم تتوفر الخيارات أمام الناس كما هو عليه الحال اليوم، كان الشخص يلبس مما هو متاح من أقمشة و يقتني من المتوفر أمامه من وسائل قضاء الحاجات إن كانت دابة أو إناء و نحوه.
كان الفرد في الماضي ينتج غذائه بنفسه، أو يشتري من الأسواق محدودة الخيارات و التي يقدم فيها البائعون البضاعة نفسها، و يعمل أعمالا محدودة و متوارثة و أصيلة كالزراعة و بعض الصناعة الحرفية و الجندية.
اليوم أفضى التطور التكنولوجي و التقني و العولمة إلى واقع مختلف يجد الشخص فيه آلاف الخيارات سواء كان ذلك في مجال المنتجات و السلع و الخدمات، أو المهن و التخصصات، أو حتى الأشخاص الذين يمكن الارتباط بهم أو تكوين صداقات معهم.
هذا التطور المحمود تسبب في إشكالات واضحة للكثيرين، فكلما زاد عدد الخيارات قلت قدرة الفرد على اتخاذ القرار الحاسم تجاه ما يريد.
و لذا نلجأ إلى البحث عن الشركة صاحبة المنتج و سمعتها لدى المستهلكين، و يستشيرك أحدهم ملحا و هو بصدد شراء سيارة من نفس نوع سيارتك، و هكذا.

مشكلة “مفارقة الاختيار”
عرَّف علماء النفس و الاجتماع ظاهرة مشكلة الاختيار ب “مفارقة الاختيار”، فعندما نعتقد أن تعدد الخيارات يتيح للشخص حرية أكبر و فرصة لتحقيق الأمثل نجد أنفسنا مخطئين في تعميم القاعدة، فالكثير من الخيارات يسبب القلق و التوتر، كما أنه من أسباب التردد، و يصعب من اتخاذ القرار الحاسم و النهائي.
يشعر الكثيرون بالندم بعد الاختيار من بين خيارات كثيرة، كأن يقول لنفسه : ماذا لو كنت اخترت الخيار الآخر؟، ذلك الشعور يسهم كثيرا في حرمان الفرد من الاستمتاع بنتائج اختياره، حتى و إن كان ذلك الاختيار هو الأكثر صوابا، بل و قد يجعله أكثر ترددا في المستقبل في المواقف التي يكون فيها الاختيار حتميا، بسبب عدم حصوله في المرة الأولى على الرضا النفسي.
نزاع العقل و القلب في الاختيار
البحث عن الأفضل له أبعاد فلسفية و نفسية عميقة، ففي الوقت الذي يتصف فيه العقل البشري بالبراغماتية و العمل على اتخاذ القرار الأفضل حسب المعطيات و القياسات المنطقية، يسعى القلب إلى بث مشاعر الطمع و الخوف من تفويت الفرصة، و ضرورة اغتنام الأفضل.
ينشأ التردد بسبب هذا الصراع الداخلي الشديد، فلو اختار خال أنه فوت فرصة أفضل، و إن لم يختر أصبح نهبا للحيرة الطويلة، و التي قد تفوت عليه فرصة الاختيار برمتها.
هنا نتأكد أن تعدد الخيارات يمكن أن يتحول إلى مشكلة بدلا عن كونه نعمة تساعد الفرد إلى الوصول إلى ما يبتغي.
تعدد الخيارات هل هو حرية أم تقييد؟
يعتقد البعض أن توفر الخيارات أمامهم ماهو إلا حرية مطلقة للوصول إلى أفضل ما يمكن، غير أن الحرية الحقيقية ليست في وفرة الخيارات فقط، و إنما في القدرة على الاختيار الحاسم و الوصول في ذات الوقت إلى الرضا بما تم انتخابه من بين البدائل المتعدده.
الشخص يجد نفسه في سوق كبير يعرض الحليب مثلا، فيقف عاجزا عن الاختيار أمام عشرات الأنواع و العلامات التجارية، بينما سيكون الأمر سهلا لو أنه وقف أم خيارات محدودة.

أثر تعدد الخيارات على الرضا النفسي
المختصون يتحدثون كثيرا عن أن الأشخاص الذين يقطنون في بيئات تتعدد فيها الخيارات يعيشون مستويات أعلى من القلق و التوتر و الاكتئاب مقارنة بأولئك الذين في البيئات البسيطة التي تضيق فيها الخيارات و البدائل.
لكي تكون المعادلة أكثر وضوحا فإن المزارع الذي لديه خيار أو اثنين لزراعة أرضه بالحبوب يشعر بالرضا أكثر من المستثمر الذي تكون أمامه فرص متعددة و متنوعة من أوجه الاستثمار.
نخلص إلى أن الرضا النفسي لا تحققه وفرة الخيارات، بل يتحقق بقدرة الإنسان على القبول بما هو متاح و الاستمتاع بالاختيار، و الاطمئنان إليه.
حب الأفضل هل هو محفز للتطور أم مشكلة نفسية؟
لولا نزوع النفس البشرية نحو الأفضل لما بلغت البشرية هذا القدر من التطور في كل مجالات الحياة، و لولا رغبة الإنسان في تحسين سبل حياته لما وصلنا اليوم إلى هذه الطفرة التكنولوجية الهائلة، هذه حقيقة مؤكدة.
المشكلة تتكون عندما يتحول حب الأفضل إلى نزعة مرضية و نهم لا يشبع يحرم الإنسان من اتخاذ القرارات الحاسمة أو الاستمتاع بنتائج قراراته.
الفرق بين الطموح الضار و الطموح المحمود يكمن في قدرة الشخص على إحداث التوازن بين القدرة على الاختيار و التمتع بنتائج هذا الاختيار.
كيف نتجنب التردد بين الخيارات ؟
يقدم المختصون عددا من الحلول المقترحة لتجنب التردد بين الخيارات و القلق المصاحب للحالة و هي:
1/ تقليص البدائل و استبعاد بعضها و الإبقاء على أفضلها.
2/ تحديد معايير واضحة تمكن الشخص من الإجابة على السؤال: ماذا أريد؟.
3/ تعلم القبول بالاختيار و عدم الغوص في “لو أني فعلت كذا لكان كذا و كذا”.
4/ معرفة أن الكمال أمر لا يمكن إدراكه، فلكل شيئ إذا ما تم نقصان، و لكل اختيار جوانب سلبية و أخرى إيجابية.
ختاما
تعدد الخيارات قد يحرم الشخص فعلا من الاختيار، بسبب الحيرة و التردد و الخوف من الندم، و لكن المشكلة ليست في وفرة الخيارات، و إنما في القدرة على الوصول إلى الرضا بالاختيار.
هذه دعوة إلى مراجعة علاقاتنا بالحرية و الطموح و الرضا النفسي، و أن ندع ببساطة ما يقلقنا وصولا إلى السعادة التي بلا شك هي مبتغى كل بني البشر.