عقلية الضحية وعقلية المحارب بين الاستسلام والقدرة على استعادة السيطرة
سمات عقلية الضحية
كتب: د. أبي عادل القاسم.
في عالم يمتلئ بالضغوط، الخيبات، والمواقف غير العادلة، يقف الإنسان أمام مفترق نفسي حاد (إما أن يرى نفسه ضحية الظروف، أو أن يتعامل معها كمحارب يسعى لاستعادة السيطرة). الفارق بين عقلية الضحية وعقلية المحارب ليس مجرد لغة أو تفاؤل مصطنع، بل طريقة متكاملة يفهم بها الإنسان نفسه والعالم من حوله. هنا تبرز أهمية الوعي النفسي؛ لأنه العامل الذي يصنع الفرق بين شخص يعيش حياته مدفوعاً بالأحداث، وآخر يواجهها من موقع الفاعل.
اذاً ما هي عقلية الضحية؟
عقلية الضحية ليست مجرد حزن أو ضعف مؤقت، بل نمط تفكير يجعل الشخص يرى نفسه محكوماً بظروف أكبر منه. يعيش إحساساً مستمراً بأن الحياة ضده، وأن الآخرين سبب مباشر لمعاناته، وأنه لا يملك القدرة على تغيير أي شيء.
صاحب هذه العقلية يكرر جملاً مثل:
“ليس بيدي شي”
“الناس هم السبب”
“أنا دايماً مظلوم”
“ما أستطيع ان أغيّر الواقع”.
هذه العقلية لا تظهر فجأة غالباً تنشأ من خبرات سابقة: تهميش متكرر، صدمات طفولة، علاقات مسيئة، أو محيط يقلل من قيمة الفرد. ومع الوقت، يصبح نمطاً ثابتاً يلوّن كل التجارب.

سمات عقلية الضحية
هناك عدة إشارات تساعد على التعرف على هذا النمط:
- الشعور الدائم بأن الآخرين مسؤولون عن الحياة الشخصية.
كل مشكلة يتم إرجاعها لشخص آخر، دون التفكير في مساحة المسؤولية الذاتية. - التهويل والشعور بأن العالم مكان غير آمن.
يميل الشخص إلى تضخيم الأحداث السلبية ورؤيتها كدليل على معاداة العالم له. - صعوبة اتخاذ القرارات.
الخوف من الفشل يجعل الشخص يفضّل تجميد حياته بدل المخاطرة. - الاعتماد العاطفي العالي.
ينتظر من الآخرين إنقاذه أو دعمه باستمرار. - الدوران في دائرة الشكوى دون البحث عن حل.
العمل بهذه العقلية لا يعني أن الشخص “سيئ” أو “ضعيف”، لكنه يعيش نمطاً تعلمه بمرور الزمن، نمطاً يستنزف طاقته ويضعف ثقته بنفسه.
في المقابل ما هي عقلية المحارب؟
تختلف عقلية المحارب عن عقلية الضحية، فهي ليست عدوانية ولا تعني الصلابة المفرطة. هي عقلية واعية ترى التحديات باعتبارها جزءاً طبيعياً من الحياة، ويمكن التعامل معها بخطوات مدروسة.
المحارب هو الشخص الذي يواجه، لا الذي يهرب.
يتساءل:
“ما هو دوري؟”
“ما الذي يمكن فعله؟”
“كيف أتحرك خطوة رغم الظروف؟”
الفرق الجوهري بين العقليتين ليس كمية المشاكل في حياة الفرد، بل طريقة تفسيره لها.
الاثنان قد يمران بالحدث نفسه: أحدهما يرى نفسه ضحية، والآخر يرى نفسه قادراً على التكيف.

سمات عقلية المحارب
المحارب ليس خارقاً، لكن لديه مبادئ نفسية واضحة:
- تحمل المسؤولية الواقعية
يدرك أن بعض الأشياء خارج سيطرته، لكن ما يمكن تغييره لا يهمله. - النهوض بعد السقوط
المحارب يتعثر، لكنه لا يبقى في مكانه. - التركيز على الحلول
بدلاً من السؤال “لماذا حدث لي هذا؟”، يسأل “كيف أتعامل مع هذا؟”. - الثقة بالنفس، ولو كانت بسيطة
ليست ثقة مبالغ فيها، لكنها اعتقاد هادئ بأن للحياة طرقاً جديدة كل يوم. - المرونة النفسية
يعرف كيف يتكيف، لا كيف ينهار.
لماذا يسقط البعض في عقلية الضحية؟
يسقط بعض الأشخاص في عقلية الضحية لأنها
● بشكل مؤلم، مريحة.
● تُعفي صاحبها من المواجهة.
● تمنحه نوعاً من التعاطف الخارجي… ولو مؤقتاً.
لكنها تحمل خطراً كبيراً تثبيت الشخص في حالة شلل حياتي.
هناك أسباب شائعة تؤدي إليها:
- تجارب طفولة قاسية جعلت الشخص يشعر بأنه غير مرئي.
- تربية تقتل الاستقلالية وتُربي على الخوف بدل المسؤولية.
- علاقات مسيئة تُكرر رسالة “أنت لا تستطيع ”.
- تعرض طويل للإحباط حتى يتعلم العقل الاستسلام.
هذه الأسباب حقيقية، ولا يُلام صاحبها، لكن الاستمرار داخل هذه العقلية يحرم الشخص من حياة يستحقها.
كيف تختلف العقليتان في تفسير الحياة؟
تأمل هذا المثال:
مشكلة في العمل
- عقلية الضحية: “الرئيس بكرهني… أنا ما عندي حظ.”
- عقلية المحارب: “أين الخلل؟ هل أغير أسلوبي؟ هل أطلب تدريب؟ هل أبحث عن فرصة أفضل؟”
نهاية علاقة - عقلية الضحية: “تخلى عني… أكيد أنا لا أستحق.”
- عقلية المحارب: “أنا اتألم … لكن التجربة علمتني. أستطيع أن أتعافى وأبني علاقة أفضل.”
فشل مشروع صغير - عقلية الضحية: “التجارة غير نافعة… الناس للأسف لا بتدعم.”
- عقلية المحارب: “تعلمت شي. أين الخطوات التالية؟”
الفارق ليس في الحدث… بل في طريقة قراءته.
هل يمكن أن تتحول عقلية الضحية إلى عقلية المحارب؟
نعم، وهذا جوهر المقال لأن العقليات ليست وراثة.
هي أنماط مكتسبة، ومع التدريب والوعي يمكن تغييرها.
لكن التحول لا يحدث بضغطة زر. إنه عملية نفسية تحتاج خطوات متدرجة.
خمس خطوات عملية للانتقال من الضحية إلى المحارب
- الاعتراف بالنمط دون جلد الذات
قل لنفسك:
“أنا اتخفى وراء عقلية الضحية… لكن أستطيع أتجاوزها.”
الوعي بداية التحرر. - تحويل الشكوى إلى مسؤولية
كلما قلت: “لماذا يحصل لي كذا؟”
بدّلها بـ: “ماذا يمكن عمله الآن؟” - كسر دائرة السلبية بالتجارب الصغيرة
خطوة صغيرة — حتى لو كانت بسيطة جداً — أقوى من التفكير المستمر. - تقوية الصورة الذاتية
ابدأ بالاحتفال بالإنجازات الصغيرة.
المحارب لا يولد قوياً… يتقوى من التجارب. - اطلب مساعدة مهنية عند الحاجة
بعض الجروح تحتاج مختص ليستخرج جذورها بعمق ويعالجها بأمان.
كيف تبدو الحياة عند من يعيش بعقلية المحارب؟
ليست حياة بلا مشاكل، لكنها حياة بقرارات.
فيها سقوط… لكن أيضاً وقوف.
فيها خوف… لكن يرافقه شجاعة.
فيها خسارات… لكن تفتح أبواباً جديدة.
الإنسان ذو عقلية المحارب لا يتجاهل الألم، بل يعترف به، يعيش لحظته، ثم يتحرك للأمام.
الخلاصة
عقلية الضحية تجعل الشخص رهينة لظروفه، أما عقلية المحارب فتُعيد إليه القدرة على الحركة، الاختيار، والتأثير. ليست المسألة أن تصبح بطلاً خارقاً، بل أن تعود لنفسك… أن تتذكر أنك قادر.
كل إنسان مرّ بمحطات جعلته يشعر بأنه ضحية، وهذا طبيعي. لكن البقاء في هذا الدور يفقد الإنسان قوته.
أما الانتقال لعقلية المحارب فيعني أن تستعيد زمام حياتك، خطوة بخطوة، حتى تصبح أنت صانع قصتك وليس مجرد شاهد عليها.
بقلم 🖋
أبي عادل القاسم الجاك
اختصاصي ومعالج نفسي
رقم العيادة الاونلاين واتساب
00249116071234