ارتفاع سقف التوقعات و الطموح بين الحافز والانكسار النفسي

التوقعات و الطموح أمران جيدان بشرط الاعتدال.
يُعد الطموح و التوقع سِمتين محوريتين في حياة الإنسان، تلعبان دوراً فاعلاً في تحديد مساره و توجهاته و خياراته.
الطموح هو ذلك الدافع الداخلي الذي يدفع الفرد لتخطي الواقع و البحث عن الأفضل، بينما التوقع هو الإطار الذهني الذي يبني فيه الإنسان تصوره لما يجب أن يحدث مستقبلاً بناءً على معطياته الذاتية أو المحيطة، غير أن الارتفاع المفرط في سقف الطموحات و التوقعات قد يتحول من محفّز للنمو إلى سبب للمعاناة النفسية، و الشعور بالإحباط، و خيبة الأمل.
الفرق بين التوقعات و الطموح
- الطموح: هو الميل النفسي لتحقيق أهداف كبرى تتجاوز ما هو متاح حالياً، و قد يكون الطموح مرتبطاً بتطلعات مهنية، علمية، اجتماعية، أو شخصية، و هو في جوهره سلوك إيجابي يدفع الإنسان لبذل الجهد والتحسن المستمر.
- أما التوقعات: فتشير إلى ما ينتظره الإنسان من العالم و الآخرين و حتى من نفسه، و هي غالباً ما تتشكل من التجارب السابقة، البيئة الاجتماعية، الرسائل التربوية، والثقافة العامة.
الفرق بين الطموح و التوقع هو أن الطموح يتعلق بما “يريده” الشخص و يعمل لأجله، بينما التوقع يتعلق بما “يفترض” أن يحدث، سواء سعى له أم لا.
كيف يُبنى سقف الطموح و التوقع؟
سقف الطموح و التوقع ليس ثابتاً، بل يتأثر بعدة عوامل منها
- التنشئة الأسرية و التربوية: الأطفال الذين ينشأون في بيئة تضع معايير عالية جداً للنجاح، قد يتبنون ذلك كنموذج للإنجاز، مما يدفعهم لاحقاً لتبني طموحات و توقعات تفوق إمكاناتهم أو الواقع المحيط.
- الثقافة المجتمعية والإعلام: الرسائل المجتمعية التي تربط النجاح بالمال أو الشهرة أو الكمال تزرع في الأفراد صورة مثالية يصعب تحقيقها، مما يرفع سقف الطموح بصورة غير واقعية.
- الضغوط الاجتماعية والمقارنات: في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت المقارنة بالآخرين مصدراً رئيسياً لارتفاع التوقعات، إذ يرى الفرد نجاحات الآخرين فيفترض أنها هي القاعدة، و يشعر أنه متأخر أو فاشل.
- الشخصية الفردية: بعض الشخصيات – مثل الشخصية المثالية أو النرجسية – تميل إلى وضع أهداف خارقة و توقع الأفضل دوماً من نفسها و الآخرين.
الأثر النفسي لارتفاع سقف الطموحات و التوقعات
رغم أن الطموح العالي قد يكون دافعاً للنجاح، إلا أن تجاوزه للحدود الواقعية قد يؤدي إلى نتائج نفسية سلبية، نذكر منها على سبيل المثال:
- الإحباط و خيبة الأمل: كلما ارتفعت التوقعات، زادت احتمالية الفجوة بين الواقع و المأمول، ما يؤدي إلى الإحباط.
- القلق والتوتر: التوقعات العالية تفرض على العقل حالة دائمة من الترقب، مما يولد قلقاً مزمناً من عدم الإنجاز أو الفشل.
- الاحتراق النفسي: السعي المستمر نحو تحقيق طموحات كبيرة قد يؤدي إلى الإنهاك العقلي و الجسدي، خصوصاً عند غياب الدعم أو الموارد.
- انخفاض تقدير الذات:
حين يفشل الشخص في تحقيق توقعاته العالية، يبدأ بتقليل قيمته الذاتية و الشعور بالنقص أو الفشل.
- الانعزال أو فقدان العلاقات:
من يتوقع الكثير من الآخرين قد يُصاب بخيبة أمل دائمة في العلاقات، مما يؤدي إلى التوتر أو الانسحاب الاجتماعي.


متى يصبح الطموح ساماً؟
على الرغم من أن الطموح أمر إيجابي يمكن أن يتحول من محفز صحي إلى عنصر سام لكن في الحالات التالية:
- عندما يرتبط بقيمة الإنسان في نظر نفسه، فيصبح الشخص يعتقد أن قيمته تقاس فقط بمدى إنجازه.
- عند تجاهل الظروف و القدرات الفردية، و وضع أهداف لا تتناسب مع الموارد المتاحة.
- حين يُستخدم الطموح كوسيلة للهروب من مشكلات نفسية أعمق، مثل الشعور بالنقص أو عدم القبول الذاتي.
- عندما يقود إلى تجاهل الجوانب الأخرى من الحياة (الصحة، الأسرة، الراحة النفسية).
كل هذه الحالات و غيرها يمكن أن تغير مفهوم الطموح و تجعل منه جحيماً لا يطاق.
ضبط سقف الطموح و التوقعات بطريقة صحية
لتحقيق توازن نفسي في العلاقة مع الطموحات و التوقعات، يُوصى باتباع الخطوات التالية:
- التقييم الواقعي للذات:
معرفة القدرات و الحدود الشخصية مهم جداً لتحديد أهداف قابلة للتحقيق.
- التدرج في الطموح: يُنصح بتقسيم الأهداف الكبرى إلى خطوات صغيرة قابلة للإنجاز مما يساعد على تعزيز الدافعية و تقليل الشعور بالفشل.
- قبول الفشل كجزء من الطريق:
الفشل ليس نهاية المطاف بل تجربة تعليمية و يجب التوقف عن ربط الفشل بقيمة الشخص.
- إدارة التوقعات من الآخرين: لا ينبغي وضع تصورات مثالية لما يجب أن يكون عليه الآخرون، بل يجب التعامل معهم بمرونة وتفهم.
- المرونة النفسية: القدرة على تعديل الخطط و الأهداف عند الضرورة و عدم التصلب في التمسك بتوقعات لم تعد مناسبة للمرحلة.
- طلب الدعم النفسي عند الحاجة: في حال تكرار مشاعر الفشل أو الإحباط أو القلق يمكن اللجوء لاختصاصي نفسي للمساعدة.


خاتمة
إن الطموح و التوقعات العالية ليست مشكلة بحد ذاتها، بل قد تكون مصدراً للنجاح و التميز إذا ما تم ضبطها وفق حدود الواقع و الموارد و المرونة النفسية، لكن ما يجعلها ضارة هو الغفلة عن الحقيقة البشرية بأن الإنسان ليس آلة للإنجاز، بل كائن يتطور و ينضج و يخطئ و يتعلم، لذا فإن أفضل ما يمكن أن نهديه لأنفسنا هو طموح متزن و توقعات مرنة و قلب يقبل الفرح حين يأتي دون أن يجلد نفسه إن تأخر.
بقلم 🖋
د. أبي عادل القاسم الجاك.
اختصاصي و معالج نفسي.
رقم العيادة الاونلاين واتساب
00249116071234