- غالب حالات التعافي من سرطان الثدي لعب فيها الوعي المجتمعي دورا كبيرا و فعالا
بقلم: د. أبي عادل القاسم.
يشكّل سرطان الثدي أحد أكثر التحديات الصحية التي تواجه النساء حول العالم، إذ لا يقتصر أثره على الجسد فحسب، بل يمتد ليطال الجوانب النفسية والاجتماعية والاقتصادية، و مع تطور الطب و ارتفاع معدلات النجاة، بدأت النظرة العالمية للمرض تتغير تدريجياً.
لم يعد الحديث عن سرطان الثدي موضوعاً خاصاً تخشاه النساء أو تسعى العائلات إلى إخفائه، بل أصبح قضية إنسانية عامة تتجاوز حدود الفرد لتؤثر في وعي المجتمعات بأكملها.
لقد ساهمت الحملات العالمية مثل أكتوبر الوردي في إعادة صياغة العلاقة بين المريض و المجتمع، مما فتح المجال لتحولات نفسية عميقة في الوعي الجمعي تجاه هذا المرض.
سرطان الثدي من السرية إلى العلن
في العقود الماضية، كانت الإصابة بسرطان الثدي غالباً ما تُحيطها هالة من الصمت و الخوف.
الكثير من النساء كنّ يخشين الإفصاح عن المرض بسبب الوصمة المرتبطة به، أو القلق من نظرة المجتمع التي قد تعتبره نهاية للحياة أو سبباً لنقص القيمة الاجتماعية.
هذا الخوف كان يضاعف من الأعباء النفسية للمصابات و يعزلهن عن الدعم المطلوب.
لكن مع مرور الزمن، تغير المشهد، و بدأت النساء في مشاركة قصصهن بشجاعة، و أصبحت التجارب الفردية منصة لإلهام الآخرين.
هذا الانتقال من السرية إلى العلن أحدث فرقاً نفسياً هائلاً، حيث تحول المرض من تجربة تُعاش في عزلة إلى تجربة يمكن مواجهتها عبر شبكة تضامن مجتمعية.
دور الإعلام و صناعة الوعي الجمعي تجاه سرطان الثدي
أحد أهم العوامل في هذا التحول هو الدور الفعّال للإعلام.
لقد نقل الإعلام التقليدي، و من بعده الإعلام الرقمي و منصات التواصل الاجتماعي و شبكات الإنترنت، سرطان الثدي من كونه موضوعاً طبياً متخصصاً إلى قضية إنسانية عامة.
ظهور الناجيات في الحملات الإعلامية، و تقديم شهادات حية عن الألم و الأمل، ساهم في كسر حواجز الخوف و الوصمة، كما أن مشاركة المشاهير و القيادات المجتمعية في حملات أكتوبر الوردي عززت هذا الانفتاح.
البعد النفسي لهذا الدور الإعلامي يتمثل في إعادة تشكيل صورة المريضة حيث لم تعد ضحية ضعيفة بل محاربة قادرة على الصمود.
هذه الصورة عززت الأمل ليس فقط عند المصابات بل أيضاً لدى المجتمع بأسره.
من الفرد إلى المجتمع البعد النفسي الجماعي
لم يعد سرطان الثدي تجربة فردية تخص المريضة فقط، بل تحول إلى قضية تمس الجميع.
هذا التحول النفسي من الفرد إلى المجتمع هو أحد أبرز إنجازات التوعية الحديثة،
فاليوم، يُنظر إلى رحلة المرأة مع السرطان على أنها رحلة تشاركية يعيشها الزوج و الأبناء و الإخوان و الأصدقاء و المجتمع.
محورية الدعم النفسي في التكيف مع المرض
الوعي الجمعي تَبنى لغة جديدة أكثر إنسانية، حيث استُبدلت مصطلحات مثل “المرض الخبيث” بتعبيرات أقل وصماً و أكثر تفاؤلاً مثل “رحلة العلاج” أو “مرحلة التعافي”.
هذه التحولات اللغوية ليست سطحية، بل تعكس تغيراً عميقاً في إدراك المجتمع لدور الدعم النفسي في تعزيز فرص الشفاء.
أثر التحولات المجتمعية على الصحة النفسية
هذه التغيرات المجتمعية انعكست بشكل مباشر على الصحة النفسية للفرد.
- للمصابة: أصبح الإفصاح عن المرض أسهل، مما خفف من مستويات القلق والاكتئاب وساعد في بناء استراتيجيات تكيف صحية.
- للأسرة: وعي أفراد الأسرة بدورهم الداعم قلل من شعورهم بالعجز النفسي، وحولهم إلى قوة مساندة فعّالة.
- للمجتمع: المشاركة الجماعية في حملات التوعية خلقت نوعاً من “الذاكرة الجمعية” التي تعزز ثقافة الفحص المبكر والدعم النفسي.
التحديات الراهنة
رغم هذه الإنجازات، لا تزال هناك تحديات قائمة على المستوى العالمي، ففي بعض المجتمعات، لا يزال الصمت و الوصمة يحكمان التعامل مع المرض، مما يعوق الكشف المبكر ويؤدي إلى تفاقم المعاناة النفسية، كما أن الفجوة بين الدول المتقدمة و النامية في الخدمات الصحية و النفسية لا تزال واضحة.
في العديد من البلدان، يتركز الاهتمام على الجانب الطبي البحت دون توفير الدعم النفسي الكافي للمصابات.
هذا القصور يجعل من الضروري تبني نهج تكاملي يوازن بين العلاج الجسدي و الدعم النفسي.

الثقافة والهوية
من المهم النظر أيضاً إلى دور الثقافة في تشكيل الوعي الجمعي تجاه سرطان الثدي، ففي المجتمعات المحافظة، قد يُنظر إلى المرض باعتباره تهديداً لصورة الأنوثة أو مكانة المرأة الأسرية، أما في المجتمعات الأكثر انفتاحاً، فيُنظر إليه باعتباره تحدياً صحياً يمكن تجاوزه،
لكن على اختلاف السياقات، يبقى العامل المشترك هو أن الصحة النفسية عنصر حاسم في كيفية تعامل الفرد و المجتمع مع المرض.
التباين الثقافي
يفرض على حملات التوعية أن تكون أكثر حساسية للخصوصيات المحلية، و أن تقدم نماذج واقعية قريبة من الناس.
نحو وعي عالمي أكثر إنسانية
أكتوبر الوردي لم يعد مجرد مناسبة للتذكير بالفحص المبكر، بل أصبح منصة عالمية لإعادة تعريف العلاقة بين الصحة الجسدية و النفسية.
من خلال هذا الحدث، تترسخ فكرة أن الدعم النفسي ليس رفاهية بل جزء أصيل من العلاج.
كما أن اليوم العالمي للصحة النفسية الذي يتزامن مع هذا الشهر يفتح المجال للتأكيد على أن مكافحة السرطان لا تكتمل إلا بالاعتراف بحق المصابات في الدعم النفسي المتكامل.
هذه القيم تتجاوز حدود الدول و الثقافات لتصبح رسالة إنسانية مشتركة ، أن المرض يمكن مواجهته بالتضامن و الوعي الجماعي.

الخاتمة
لقد شهد العالم تحولاً عميقاً في الوعي الجمعي تجاه سرطان الثدي، من تجربة فردية تُعاش في عزلة و صمت، إلى قضية عامة تثير التعاطف و تستدعي التضامن.
هذا التحول لم يغير فقط صورة المرض في المخيلة الاجتماعية، بل منح المصابات قوة إضافية لمواجهة تحديات العلاج و التعافي.
إن المستقبل يتطلب تعزيز هذا المسار عبر سياسات صحية متكاملة تضع الصحة النفسية جنباً إلى جنب مع العلاج الطبي، فالمجتمع الذي يحتضن مرضاه و يدعمهم نفسياً هو مجتمع أكثر صحة و إنسانية. من هنا، تظل رسالة أكتوبر الوردي واضحة: السرطان ليس نهاية، بل بداية جديدة يمكن أن تُخاض بشجاعة حين يتحول الدعم من الفرد إلى المجتمع.
بقلم 🖋
ابي عادل القاسم الجاك
اختصاصي ومعالج نفسي
رقم العيادة الاونلاين واتساب
00249116071234