الكديب و القضارف في الخريف مشاهدات و مفردات

كانت عمليات “الكديب” حدثا موسميا استثنائيا في مناطق القضارف في الخريف، قبل أن تتطور الوسائل و يلجأ المزارعون إلى مبيدات مكافحة الحشائش.
تمثل عملية “الكديب”مرحلة مهمة من مراحل الموسم الزراعي في الزراعة الآلية المطرية التي تزدهر في السودان في القضارف شرقا و النيل الأزرق في الجنوب الشرقي و ولايات كردفان و ولايات دارفور.
تسبق الكديب قطعا عملية تأسيس المزروعات التي غالبا ما تكون أنواعا من الذرة الرفيعة و السمسم و الفول و زهرة الشمس.
اكتسب المزارعون معرفة واسعة بأنواع المحاصيل و الأنواع الفرعية لكل محصول، حيث يمكنهم ذلك من تحديد موعد زراعة كل نوع من أنواع الذرة الرفيعة في الموعد الذي يناسب خصائصه.
هناك من أنواع الذرة ما يتطلب المياه الوفيرة، و هناك الأقصر في عمره، و هناك ما لا يتطلب غير القليل من المياه.
و من الأنواع المشهورة للذرة مثالا لا حصرا الصفراء، و الدبر، و الفيتريتة، و ود أحمد، ود عكر، و هي أنواع طورتها محطات إكثار البذور في عهد كان الاهتمام فيه بالزراعة أكبر.


الكديب هو العملية التي تزال فيها الحشائش الحولية التي تنبت مع المزروعات و تنافسها على الغذاء و تحجب عنها ضوء الشمس.
تتنوع الحشائش الحولية في مناطق شرق السودان تنوعا كبيرا، فنجد من أنواعها المعروفة بالأسماء الشعبية الحميراء، و الدرعية و البودة، و النوعان الأخيران من أكثر أنواع الحشائش ضررا بالمزروعات و تعتبر عند المزارعين من الأوبئة التي تقتل المزروعات.
لا تمنح “البودة” أية فرصة لنبات آخر للنمو في المكان الذي تنتشر فيه، و يعد انتشارها في أرض ما مشكلة تستدعي الاسراع في إبادتها.
يسرعون في إبادة هذا النوع من الحشائش لكونها تنتشر بسرعة فائقة مع توالي مواسم الأمطار، و الغريب أنها تخرج للناظرين أجمل زهور الخريف بلون وردي زاه يجذب الأبصار.
أما الدرعية فهي الأخرى تحرم غيرها من النباتات بما في ذلك المزروعات حق الحياة، و هي نبات زاحف ينشئ جذرورا بقدر امتداد زحفه فيفترش الأرض بساطا يستحسنه من لا يعرفون ضرره، و يعدونه من روائع الخريف.
الواقع إن إزالة “الدرعية” من أصعب الأعمال التي تمارس في الخريف، لحاجته إلى الدقة في إزالة النبات بشكل كامل و القضاء على جذوره الممتدة امتداد وجوده، و مع ذلك فهو المكان المحبب للثعابين التي تجذبها برودة أوراقه و امتداده الواسع.
في كل الأحوال يهتم المزراع بإزالة الحشائش قبل أن تؤذي المزروعات، و قبل أن تكون بذورا تؤدي إلى تفاقم المشكلة.
القضارف في الخريف تستقبل الناس من بقاع السودان المختلفة
في يوليو من كل عام يمكن للرائي مشاهدة مئات العمال الموسميين و هم يحملون حاجياتهم البسيطة و يتجمعون في أماكن محددة.
ينتظر هؤلاء عقد اتفاق مع أصحاب المشاريع الزراعية يعرف ب ” القوال ” ، حيث أتى الاسم من المقاولة و الأخذ و الرد في السعر و مساحة الأرض المطلوب نظافتها من الحشائش.
يتم ترحيل العمال إلى موقع المشروع الزراعي بواسطة الجرار و “الترلة” المقطورة، أو العربات اللاندكروز و اللاندروفر و غيرها من وسائل النقل التي تقاوم الأوحال.
أما في موسم الحصاد، فيتم الترحيل بواسطة هذه الوسائل إضافة إلى اللواري (السفنجة و الأوستن)، حيث تكون الأمطار قد توقفت و جفت المجاري الموحلة.


هؤلاء أدواتهم تتنوع حسب المرحلة من عمر الموسم الزاعي، و يستخدمون المنجل لقطع سنابل الذرة و حزم السمسم، و لكنهم في مرحلة ” الكديب ” يحملون “الملود” لإزالة الحشائش من بين المزروعات.
و هو أداة حديدية و يلحق بها عود من الشجر يمكن أن يكون قصيرا فيستخدم الإنسان الآلة جالسا، أو طويلا فيستخدم الشخص الآلة واقفا.
و قد تلحق به قطعة صغيرة تسمى الحكاكة لإزالة الطين ، و قد لا توجد لأن أغلب العمال لا يباشرون العمل بعد هطول الأمطار مباشرة حيث تكون الأوحال في قمة غناها و المياه على سطح الأرض.
للملود اسم آخر و هو “الحشَّاشة” و هو آلة يصنعها الحداد و تختلف عن تلك المسماة ب “النجَّامة” في شمال السودان مع الاتفاق في الغرض.
تعد عملية الكديب عملية حيوية بالنسبة للزراعة المطرية و تحتاج تمويلا مناسبا و حاضرا لارتباطها بمرحلة محددة من عمر المزروعات، حيث يؤدي تأخيرها أو عدم القيام بها إلى فشل العملية الزراعية برمتها في المشروع الزراعي.
ينقسم اليوم في مناطق الزراعة إلى ضحوة و ضهرية و سهرة، بحسب التقسيم الشعبي المتعارف عليه، تتخللها أوقات قصيرة للراحة و تناول الطعام.
يعود العمال المعنيين ب “القوال” إلى ” التاية ” و التي تكون شجرة “لالوب” أو “راكوبة” تمثل المكان الذي يتجمع فيه العمال في الليل، أو خلال اليوم لتناول الطعام.
ذلك في حال كان “الكمبو” و هو عدد قليل من القطاطي في المشروع بعيدا.
يمثل الكمبو رئاسة المشروع الزراعي، و به تتواجد القطاطي و الحفير إن وجد و مخازن الطعام و الوقود و التراكتورات و غيرها، كما يتواجد به “الوكيل” و هو الشخص المكلف بإدارة العمليات الزراعية نيابة عن صاحب المشروع.
قد توجد بالكمبو راكوبة أيضا و كل ما يحتاجه المزارعون أثناء تواجدهم في المشروع الذي كثيرا ما يكون بعيدا عن المناطق الحضرية.
هذا الكمبو يعود له المزارعون في كل عام عام مبكرا فيزيلون أغصان الشوك التي كانوا قد اغلقوا بها مداخل القطاطي، و يشرعون في نظافتها و التأكد من أنها ليست ملاذا للثعابين و العقارب و غيرها.
الواقع أن المزارع لا يغيب سوى فترة محددة عن الكمبو، تبدأ عندما يجمع محصوله في الجوالات و يرحله إلى المخزن أو أسواق المحاصيل.
و هي الفترة ما بين شهري نوفمبر و نهاية يونيو، حيث يعود لأعمال الصيانة و الاستعداد للموسم الجديد الذي يبدأ في مناطق القضارف تحديدا في الأسبوع الأول من يوليو.
طعام هؤلاء مكون بشكل أساس من العصيدة المصنوعة من الذرة الرفيعة “السورغم” و تصنع من غير تخمير على حطب مجلوب من أغصان الأشجار حرصوا على أن لا تصيبه الأمطار.
و مع العصيدة يستخدمون “الكجيك” كإدام مصنوع من السمك المجفف الذي يتم جلبه من مناطق مختلفة في السودان كالروصيرص و الدمازين التي تحتوى أكبر أسواق الكجيك في السودان.
هؤلاء العمال حياتهم مزيج من الكفاح و المغامرة و ممارسة الصبر و بذل القوة.
يعملون معتمدين على خبرات شعبية متوارثة تجمع ما بين الأرصاد الشعبي للأحوال الجوية و معرفة مكامن الخطر في مجاري الخيران العنيفة و توخي الحيطة من أجل مواصلة الحياة، يجابهون في ذلك جيوش البعوض و إصابات الملاريا و الزواحف السامة.
الناظر إلى عطاء الأرض و السماء بأمر ربهما في القضارف يعجب لكون البلاد تعاني و هي تملك كل تلك النعم الجزيلة.
في السودان المأمول راسخ الأقدام و عالي الشأن ينبغي النظر إلى ذراع المزارع بما تستحقه من تقدير، و لمنتوجاته بعقلية التطوير.
السودان بلد زراعي وافر الإمكانات و الإنتاج إن وجدت الزراعة من يطورها، و إن وجد المزراع ما يستحقه من الدعم و التشجيع و الحفز.

